مدير مكتب القذافي يتوجه برسالة لمؤتمر قبائل الجنوب في ليبيا

المختار العربي – خاص

توجه مدير مكتب الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ، الدكتور بشير صالح برسالة للمشاركين في مؤتمر مجلس القبائل بالجنوب في ليبيا ، تحصل مراسل “المختار العربي” المتواجد في مدينة تراغن على نسخة منها ، جاء فيها :

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، 

أبناء وبنات ليبيا الغالية، 

إخوتي أهالي الجنوب الأغرّ الأصيل، 

أحبّائي وأهلي بتراغن الطاهرة، 

أيّها الأفاضل، 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أحيّيكُم وأشدّ على أيدِيكم الكريمة وأُثني كلّ الثّناء على المولى العزيز الجبّار الذي جمعني بكم بعد سنوات البُعد والمِحنة.. 

إنّهُ لمِن دواعي السعادة والفخر لشخصي المتواضع أن أحظى بهذه الفرصة، وأن يمتدّ بي العمر بمشيئة الرحمن الرحيم حتى أشهد مناسبة اجتماع إخوتي وأهلي في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ بلدنا ليبيا. ولا عجب في ذلك، لأن تاريخ الجنوب العزيز الصابر رغم الآلام، ورغم كل ما قد مرّ عليه وما يمرّ من عُسرةٍ ومِحنةٍ، قد كشف على الرغم من قسوة الامتحان، طبيعة المعدن الحقيقي لأبناء الجنوب، وقدرتهم على المُصابرة والاحتمال تأكيدا لما عُرِفُوا به من خصال الجلد والصمود والحكمة ورجاحة العقول عبر مختلف مراحل تاريخهم. 

أيّها الأفاضل، 

إن المُصاب الذي تعرّض له الوطن بمشيئة من الخالق عزّ وجلّ قد كان لحظة ابتلاء أضاع فيها غالبيّةُ الليبيين الكثير من إتّزانهم ورصانتهم، واحتكموا فيها إلى الحلّ الأخطر والأصعب والأكثر تدميرا وإضرارا بالوطن وبالشعب بشكل عام ألا وهو حلّ التصادم المسلّح. 

غير أن هذا الابتلاء ليس بالسّابقة، ولا بالحدث الفريد في التاريخ.. فمعظم الأمم العظيمة قد شهدت نزاعات وصراعات وتناقضات.. فالصراع والتدافع من سُنن الله في الأرض..وكلّ شيء مرهُونٌ بإرادة خالق السموات والأرض.. لكنّ الصراع ليس مصيراً نهائيا ولا وضعا دائما.. إنه ليس خاتمة المطاف في ليبيا وفي غيرها.. 

ومن منطلق اطّلاعي واطّلاع كثيرين من بينكم أيها الإخوة على ما مضى من تاريخ البلدان والأمم القديمة والمعاصرة، فإننا نعلم الكثير عن صراعات شهدها العالم وخلّفت أكثر ممّا جرى بليبيا من خسائر وإضرار.. نشهد على صراع ما بعد الثورة الفرنسية، وعلى الحرب الأهلية الأسبانية، في غربيّ أوروبا…. وعلى صراعات منطقة البلقان.. والحرب العالمية الأولى والثانية..  

وفي أفريقيا نشهد على حالة أنجولا البلد الأكثر إنتاجا للنفط بأفريقيا اليوم.. هذا البلد عصف به نزاعٌ مسلّحٌ لأكثر من عقدين من الزمن، لكنه تعافى وأحرق أكوام السلاح في مشاهد لن ينساها التاريخ.. واستعاد قوته وأسس حياة مسالمة ودخل في حالة نماءٍ ورخاء متصاعد.. 

كما لا ننسى حرب ساحل العاج الأهلية، التي انتهت إلى دولة ديمقراطية وشعب متصالح متوافق، واقتصاد ناشئ يشق طريقه نحو النماء بثبات.. 

ونتذكّر صراعات مالي والنيجر.. والتي كانت ليبيا راعيا ووسيطا فيها، وشاهدا على عودتها إلى الحياة الطبيعية والتعايش السلمي بين أطرافها المتصارعة.. 

أماّ بمنطقة الجوار المغاربي، فلنا في ما جرى بالجزائر الشقيقة مَثلاً وعبْرة. فبعد عقدٍ كامل من الصراع والفتن، توصّل أشقاؤنا إلى توافقات حقنت دماءهم، وإلى حالة وئام وطني وصفح ومصالحة أعادت بلدهم إلى الأوضاع الطبيعية. 

صحيح أن كل هذه البلدان التي ذكرتُ قد خسرت مئات الآلاف من أبنائها. واستنزفت نزاعاتها وصراعاتها جانبا كبيرا من ثرواتها ومقدراتها.. وأضرّت بتماسكها الاجتماعي وبقيم التعايش فيما بين مكوّناتها.. لكن ذلك قضاء الله وقدرُهُ.. كما أنه ضريبة عدم الاحتكام إلى المنطق، وعدم الإصغاء إلى أهل الرشاد وأصحاب العقول الراجحة.. فمن يخطئ لا بدّ أن يدفع ثمن أخطائه.. لأن الله قد أنعم عليه بنعمة التمييز والعقل، وعلينا نتحمّل ما يترتّب عن أخطائنا، وهذه القاعدة لا تستثني أفرادا ولا جماعات، بل تنطبق على الجميع.. 

لكن بقدر ما نؤكد أن القبول بمشية الله جزء ركنٌ من إيماننا وديانتنا، فإننا كذلك نؤمن بمسئولية الإنسان، وبقدرته على إصلاح ما أفسد.. وعلى العودة عن الخطأ، فـــ”خير الخطّائين التّوّابون” كما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام.. 

من منّا لا يشعر بالندم على ما جرى لوطننا؟ 

من منّا لا يشعر بالألم على الخسارة الفادحة التي مُنيت بها ليبيا في شبابها وأطفالها ومشائخها ورجالاتها الذين بذلوا العَرَق والجهد في سبيل بنائها؟؟ 

ومن منّا لا تدمع عيناهُ وهو يتجول بمدننا فلا يرى غير الأنقاض والحُطام ومئات المشاريع المعطلّة التي كانت قابَ قوسيْن أو أدنى من التنفيذ والتسليم وقد تحوّلت إلى خراب؟؟ 

ومن منّا لا يشعر بالضآلة ويستصغر نفسه وهو يرى أبناءنا يعيشون منذ أعوام في بيوت الصفيح نازحين داخل بلدهمبعد أن حُرّقتْ بلداتُهُم وهدّمت بيوتهم؟؟ وآخرين يُعدُّون بالآلاف يعيشون مأساة النفي والإبعاد والتهجير القسري؟؟ 

ومن منّا لا يشعر بالكَرْب لأرض الوطن التي تُستباحُ كل يوم وكل ساعة؟؟ وللمنافذ اللّيبية التي لا سلطة ولا سيادة لليبيا عليها؟؟ وللثروات الضائعة والمهدورة، والحرمان الذي يعيشه الليبيون بعد الرخاء والعزّة، وغير ذلك ممّا يُدمي القلب ويجرح الفؤاد؟؟ 

أقول هذا الذي تعرفون.. ليس لمجرّد الاستعراض، أو التذكير، لكن لكي ندرك عبثيّة ما يجري..ولكي ندرك بالمقارنة البسيطة أن دوام هذا الحال يعني ضياع ليبيا، وضياع الجنوب بالخصوص.. 

ولأن المناخ العامّ اليوم مُتّجهٌ نحو الحل السلمي ببلدنا، ونحو تطبيق الاتفاق السياسي الذي توصّلت إليه الأطراف التي تحاورت تحت رعاية الأمم المتحدة، كصيغة وحيدة ممكنة، واجتهاد أقصى للتوافق حول إنقاذ ليبيا..

وضمن المساعي التي تبذلها مختلف المكونات السياسية والاجتماعية الليبية لتقريب وجهات النظر، وتضييق هوّة الخلافات كي نحظى بفرصة حقيقية لصناعة السلام ببلدنا.. 

علينا أن نتذكر دائما أن هنالك قوى كثيرة في العالم ترقبُ ما يجري في ليبيا بكل الاهتمام والانتباه، أولا لتأثيره المباشر على أمنها ومصالحها، وثانيا، للارتباط الوثيق بين ما يجري في ليبيا وما يحدث بمناطق كثيرة بالإقليم، وأخيرا لموقع ليبيا الخطير ومساحتها الشاسعة وللموارد الإستراتيجية التي تمثل مَطْمَعاً لأطراف كثيرة، وجائزة تتسابق قوى عديدة للفوز بها..

وإن الجماعات الإرهابية مثل “داعش” هي أحد هذه الأطراف التي استطاعت إلى حدّ الآن أن تثبت أنها أقوى من الدولة، وأشدّ تماسُكا وصلابة من المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة ببلادنا، دليل ذلك هو تمدّدُها وتنامي نفوذها وفشل محاولات التصدي لها ليس بسبب قوّتها الشديدة، أو لضعفنا الشديد، بل لأننا متفرّقون، ومنقسمُون، مصالحنا شتّى، وحساباتُنا شتّى، وأدواتنا شتّى. 

إن ما نعيشه اليوم في ليبيا هو كارثة وطنية شاملة وعامّة صنعها الجميع وتورط فيها الجميع، لذلك ينبغي لليبيّين أن يواجِهُوها كافّة كما صنعُوها كافة. ولا داعي لحساب مسئولية كلّ طرف، أو محاولة اتهام هذا أو ذاك.. ولا فائدة تُرجى من العودة إلى الأسباب، أو إلى لغة التحريض أو التخوين أو الانتقام أو الثأر.. 

أيّها الإخوة، 

لا يوجد ليبيّ واحد مستفيد ممّا جرى في ليبيا.. فلا المنهزم أو النازح أو المهجّر أو الجريح أو المعزول استسلم ورضي بما جرى له أو نسي بلده أو تخلّى عن أمله في استرداده.. ولا المنتصر استطاع أن يهنأ بانتصاره أو استطاع إلغاء الآخر.. بل دخلت ليبيا دوامة من الاقتتال والنزاعات العنقودية التي ينشأ بعضُها عن البعض الآخر.. فانتشار السلاح ينغّص حياة الجميع، وغطرسة الميليشيات كذلك، وغياب الأمن والأمان يضع الجميع في دائرة الخوف والخطر.. وتعطّلُ الاقتصاد وشللُ استغلال الثروة الوطنية يَحرِمُ الجميعَ من حياة كريمة رخيّة، ويمنع وصول الغذاء والدواء والخدمات إلى الجميع.. لا مستفيد من استمرار النزاع بين الليبيين.. ولا رابح من استمرار الحقد والضغائن.. 

إن الرّهان اليوم ليس على مكسب سياسي ولا على مكسب مادي فردي أو فئوي.. فذلك لن يفيدنا بالمرّة.. بل هو الرّهان على حلّ ينقذ الوطن.. ويُخرِج الشعب الليبي إلى الفوضى إلى شاطئ الأمان بإذن المولى العزيز الجبار. 

أيها الإخوة الكرام، 

تعلمون ولا شكّ أن لقاءكم المُبارك اليوم حدثٌ مفصليّ ليس في تاريخ فزّان فحسب، إنّما في ليبيا كلّها.. فكلّ اجتماع طاهر يعقده الليبيون لرأب الصدع وجسر هوة الخلافات هو لقاء مبارك بإذن الله لأن فيه من الأجر ما ليس في قتال أو في عبادة. وهذه اللقاءات مطلوبة في كل أنحاء البلد حتى يعود الدفء الاجتماعي، وتنشط المكونات الخيّرة في منطقتنا لتستعيد دورها الذي نعرفه ويعرفه أسلافنا عبر العصور. 

لستُ أكثركُم علماً بتاريخ فزّان، ولا بعمق الروابط بين أهلها ومكانة العقل وقيم الطيبة في مجتمع الجنوب عموما.. 

ولستُ أكثركم دراية بحكمة آبائنا وأجدادنا من مشائخ فزان الطاهرة التي كانت أرضُها وما تزال تحتضن من الأعراق والانتماءات ما يجعلها قدوة لأهل ليبيا وأُسوةً لإخوتنا في مختلف مناطق بلدنا في حسن التعايش، والانسجام الاجتماعي والتناغم العرقي بين النسيج المتنوع.. 

غير أن الهزّة العنيفة التي أحدثها الصراع في ليبيا، قد أثرت في الجميع، وأصابت البُنيان المجتمعي إصابات مؤثرة كغيره من المجالات والكيانات الأخرى بالبلد. 

ووجودنا اليوم هنا إنّما هو خطوة عملية لترميم العلاقات وإحياء الروابط وإصلاح ذات البين، حتى تستعيد القلوبُنقاءَها وتترفّع النّفوس عن الأحقاد الشخصية وتتعالى على الجراح كي تستطيع الانصراف إلى الإصلاح والبناء.. 

إن لقاءنا اليوم أيها الإخوة قد يكون الأوّل من نوعه، لكن ينبغي ألاّ يكون الأخير.. بل ينبغي أن يكون أكثر من مجرد لقاء يتيم عديم التأثير.. تنتهي مفاعيله بمجرد إلقاء بيان ختامي دبلوماسي اللهجة.. 

ليس هذا المطلوب. 

فما نحتاجُهُ هو أن يتحوّل لقاؤنا إلى ملتقى ومنتدى دائم لأبناء الجنوب، وإطارا شاملا للتعاون وإدارة الخلافات بشكل سلميّ ومُتحضّر، وساحة للتوافق الرّاقي بين مكونات الجنوب لكي تنطلق في مشروع مصالحة كاملة وشاملة لا تستثني من أبنائنا أحدا.. ولا تُغيّبُ أحدا.. ولا تُلغي أحدا.. 

لقد كان الجنوب موحّدا ومتجانسا عبر العصور، ونحن نعلم سبب تغيّر أحواله.. فالمال والسلطة والأنانيات والنعرات هي التي صنعت المشكلة.. وهي التي جعلتنا نقتتل ونتفرّق حتى طمع فينا الجميع، وتسلّط علينا الأغراب بسبب ضعفنا ووهن إرادتنا.. فأصبحت ثرواتنا مستباحة وأرضنا مرتعاً لكل المغامرين والحالمين ولم يعُد الواحد منّا قادرا على تأمين ممتلكاته، بل تأمين أهل بيته وأطفاله، بل عاجزا حتى عن تأمين نفسه!!.. 

لقد آن الأوان كي نتوقّف عن التفكير في أنفسنا.. علينا أن نفكّر في أبنائنا، وفي الأجيال القادمة التي لا ينبغي أن ترِثَ عنّا النزاعات والكراهية والحقد والدماء.. لقد فقدنا من أبنائنا وشبابنا ما يكفي بسبب النزاع المسلح.. وفقدنا منهم ما يكفي بسبب الأمراض والأوبئة وانعدام الخدمات.. يجب أن نتّقي الله في أبنائنا وأن نُوقف هذا المسار العبثي فورا، لأن من نَجَوْا من السلاح سوف يهلكُون بالأمراض، ومن تتركهم الأمراض سوف يكونون غارقين في الجهل والأميّة، مع رغبة بالثأر وشهوة الانتقام.. ولن تتوقف دوامة الفوضى ولا حلقة القتل والدم!!    

لا أحد منّا يرضى بهذا المصير لفزّان أيها الإخوة.. ولا أحد يرضى بأن يكون أهالي الجنوب عنصر توتّر أو مصدر فوضى أو دمار لليبيا.. لقد تعرّضنا للظلم ونعرف مرارته، فكيف نكون ظالمين لأنفسنا؟؟ وكيف نظلم أبناءنا؟؟ 

إن وأد الفتنة والقطع مع حقبة القتل والصراعات ليست مجرد اختيار وصحوة ضمير عابرة تنشأ فينا بسبب خطاب  حماسي أو كلمة مؤثرة.. 

الأمر أعمق من ذلك.. وأخطر.. 

إن مسئوليتنا الوطنية والشرعية والأخلاقية تدعونا إلىالتقارب والتصالح والصّفح والانطلاق موحّدين نحو الترميم وإعادة الإعمار المجتمعي والسياسي والحضاري والأخلاقي، وهذا النهج فقط ولا شيء سواه هو الذي سوف يقودنا نحو النجاة ونحو السلام، ويحقن دماءنا، ويضمّد جراحنا، ويجمعنا بعد أن فرّقتنا الأنانيات وهستيريا التحريض والفتن. 

أيها الإخوة الكرام، 

لقد تحدّثتُ منذ الأيام الأولى للأزمة من موقعي السياسي والاجتماعي الذي تعرفون عن ضرورة تطويق النزاع والحذر من نتائج وخيمة قد تنجرّ على البلد والشعب الليبي في حال السماح للفتنة بالاندلاع.. والحيلولة دون الاحتكام إلى السلاح وإلى القوة قدر الإمكان.. 

وكان كلامي صريحا وواضحا.. والحقيقة التي أقولها للتاريخ، أنه قد كانت هناك استجابة لما قُلتُ (خطاب القائد في 2 مارس 2011 بمناسبة ذكرى قيام سلطة الشعب).. وكان هنالك تقبّلٌ حقيقي لتحذيراتي من الفخّ الذي كان يُنصبُ للقيادة، والمؤامرة التي كان البلد يندفع إليها بالتحريض والتهييج الإعلامي والخارجي بالخصوص.. لكن مسئوليّتنا كليبيين كانت كاملة في انسياقنا خلف التحريض وسماحنا للمؤامرة بالحدوث.. ولم يكن لدينا وعيٌ كافٍ أو مُعمّق بأن الهدف قد كان موارد ليبيا وثرواتها، ومعالجتُنا كانت متشنّجة وعصبيّة، بل الأخطر أن مصالح ليبيين كثيرين من بني جلدتنا قد تقاطعت والتقت مع المؤامرة فانخرطت فيها بسذاجة أو بطمع، وهذا ما جعل فرصة الحلّ السلمي تصطدم بالأطماع والسذاجة فانهارت رغم جهودنا، وردود الأفعال من مختلف الأطراف المؤيدة والمعادية تكون على تلك الشاكلة.. 

أعلم أنّ هنالك غالبيّة إخوتي ينتظرون من مداخلتي هذه أن تكون سرداً للوقائع وتوزيعا للمسئوليات.. لكنها في الحقيقة ليست كذلك.. فليس هذا ما نحتاجه على الإطلاق.. فقد كنْتُ طيلة أحداث الأزمة مُلازِماً لموقعي ملتزما بأداء واجبي تُجاه بلدي دون تقصير ودون حسابات.. وظللْتُ أبحث في كل مكان عن المخرج السلمي حتى آخر لحظة مستخدما تجربتي وعلاقاتي مع أطراف كثيرة في العالم.. لكن كانت هنالك إرادات كثيرة أقوى من جهودي وأشد تأثيرا من المساعي التي كنتُ أبذلها مع الخيرين والمؤمنين بالسلم.. هذه الإرادات خارجية ونافذة للأسف الشديد. 

ولا شكّ أن معظمكم يعلمون حقّ العلم ملابسات ما حدث لي وأسرتي، وما دفعته من ضريبة غالية لاصطفافي في خندق الوطن، وما تعرّضت له من تنكيل مادي ومعنوي، وما ابتلاني به الله من محنة المنفى والتهجير شأني شأن مئات الآلاف من أبناء وطني.. 

لكنني راضٍ عن ذلك.. فلم أتعرّض إلاّ إلى ما قد كتبهُ الله لي.. ولستُ بأفضل من ليبيّين آخرين تعرضوا لأكثر ممّا تعرّضتُ له من ابتلاء وامتحان..

ولإيماني الشديد بخيار السلام وحقن الدماء.. فقد واصلتُ الدعوة العلنية عبر موقعي الخاص وعبر صفحتي على مواقع التواصل الاجتماعي إلى جمع الليبيين واتّصالاتي المباشرة مع كثير من الأطراف داخل بلدي وخارجه، بُغيةَ التأليف بين القلوب، والتصدي لمن يتوهّمون تحقيق مكاسب من أزليّة الصراع.. وتعرّضت إلى الهجمات والشتم والإهانات من كثيرين بسبب هذا التوجّه.. وكان من الطبيعي أن يؤدي الأمر إلى ما نرى من خراب ومآسي ومعاناة للأبرياء، نتيجة الهروب إلى الأمام.

لم تكن دعوتي إلى المصالحة في ليبيا، وفي فزّان بالخصوص مجرد دعوة عاطفية، ومحاولة عابرة، بل كانت موقفا مؤسسا على اِطّلاعٍ ودرايةٍ وخبرةٍ بصراعات عديدة شهدها العالم، وشهدها الإقليم بالتحديد.. وكنت بحكم موقعي السياسي ومباشرتي المستمرّة لمسارات نزاعات كثيرة في أفريقيا، وقيامي بترتيب وساطات قيادة بلدي لوقف الصراع وإحلال السلام ببلدان متوترة بمنطقة الجوار وخارجها، أذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر (السودان، مالي، النيجر، تشاد، غينيا، ليبيريا، موريتانيا، ساح العاج، وغيرها) طيلة ما يزيد عن عقدين من الزمن…كنتُ على يقين بأن المصالحة وجمع السلاح والإفراج عن المعتقلين وردّ المظالم هي خطوات حتمية لا بدّ أن تنتهي إليها كل الصراعات على وجه الأرض، أولا، لأن الفطرة هي السلام وليس الاقتتال، وثانيا، لأنه لا بدّ لأطراف الصراع أن يُصيبها التعب ذات يوم، وأن تنفذ ذخائرها، وأن يسأمَرجالُها القتال، فتلتمس طريق السلم وحقن الدماء.. وكُنت أتساءل بيني وبين نفسي، وأثناء مناقشاتي مع إخوة كثيرين عن سبب الاستمرار في طريق الصراع ما دام الحلّ السّلمي حتميّا؟؟ 

وقلتُ ذلك مرارا في العلن.. لماذا لا نختصر طريق المعاناة؟ 

ولماذا لا نختصر المأساة؟ لماذا لا نتوقف عند هذا العدد من الأرامل؟ لماذا لا نتوقف عند هذا العدد من الأيتام والثكالى والجرحى والمهجّرين؟؟ 

لماذا لا نتّقي الله في نعمته التي أنعم بها علينا أن جعلنا بلدا ثرياّ غنيّا فأصبح بعضنا يقتل البعض الآخر بمال النفط، وبالسلاح الذي كنا نشتريه كي ندافع عن أنفسناونردّ الاعتداء عن بلدنا؟؟ فأموالنا نعمة ربّانية.. وقوّتنا وعتادنا نعمة ربّانية.. وأبناؤنا وأهالينا نعمة ربّانية كذلك!!

كنت أقول هذا الكلام بعلم غالبية أبناء ليبيا وأبناء فزّان.. قلته عام 2011. وكرّرته عام 2012. وعام 2013. و2014. والعام الماضي.. وما أزال أفعل إلى اليوم.. وعند نهاية كل عام، كانت حصيلة الخسائر تتضاعف عن العام الذي سبقه.. الخسائر بمختلف أصنافها، بشرية، ومالية، ومجتمعية، وأخلاقية.. وصحية.. وغير ذلك مما لن نعرفه اليوم أو غدا.. 

نعم، فسوف نقف على خسائر أخرى هائلة لم نشعر بها بعد، خسائر ثرواتنا الإستراتيجية، ودمار البيئة من التلوث ونيران السلاح والذخائر المدمّرة التي استخدمها الطيران الأجنبي فوق رؤوسنا.. وضياع الثورة الحيوانية.. وكثير من الخسائر الأخرى أيها الإخوة.. هذا بسبب العناد والمكابرة والابتعاد عن الفطرة السليمة وعن صوت العقل والحكمة. 

لقد كان انحيازي للسلم والمصالحة موقفا مبدئيا ثابتا لم أتزحزح عنه قيد أنملة.. موقف نابع من فهمي للتاريخ..

تعلمون ولا شكّ بعض الأمور عن دولة جنوب أفريقيا.. هذه التي كانت أقليّتها تستعبد الأغلبية وتستأثر بكل شيء على أرضها، وتنكّل بها أشدّ التنكيل لمدة عقود من الزمن.. 

نحن نعلم ماضي جنوب أفريقيا.. ونعلم حاضرها.. ونعلم كذلك أن حاضرها لم يتحقّق بالسلاح ولا بالمغالبة ولا بالانتقام أو الثأر..

تجربة جنوب أفريقيا نلسون مانديلا مع الصراع والمصالحة والصفح درسٌ تاريخي علينا أن نستفيد منه ككلّ شعوب العالم.. 

وكان موقفي كذلك منطلقا من عقيدتي كمسلم، ومن استيعابي للأوامر الإلهية التي تُعظّم الرُّوح البشرية وتحرّم إزهاقها إلاّ بالحق، وتبشّر من يصفحون ويسامحون ويعفُون عن الناس بمرضاة الله وبالفوز في الدّارين..

فقد قال ربّ العزّة في مُحكم التنزيل، بسم الله الرحمن الرحيم:” وسارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وجنّةٍ عَرْضُها السَّمَاوَاتُ والأرْضُ اُعِدّتْ للمُتّقين (133) الذينَ يُنفِقُون فِي السّرّاءِ والضّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الْغَيظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبّ المُحْسِنِينَ” (134) (آل عمران)

وقال في الأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس:”لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(114) (النساء)

وقال عن قابيل إذ قتل أخاهُ: “فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.” (30) (المائدة)

وقال في تحريمٍ صريحٍ لأذيّة الغير في نفسه وماله:” وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) (البقرة). 

هذا هو منْهجُنا أيها الإخوة.. 

ولمّا كان أهل الجنوب متعايشين منسجمين متحابّين منذ وجودهم على هذه الأرض كما أسلفتُ..فإن استعادة السلام والتحابُب والتناغم بينهم لن يكون بالأمر الجديد، أو غير المسبوق في التاريخ، بل هو عودة إلى ما كانوا عليه قبل أن “ينزغ الشيطان بين الإخوة” ويحترقوا بنار الفتنة وإثم سفك الدماء. 

أيّها الإخوة الأفاضل، 

لا تعلمون مقدار سعادتي بمخاطبة هذا الجمع الطاهر، وحجم ما أشعر به من أملٍ في صحوة شاملة عامّة، وطمعي الذي لا حُدود له في أن يُنعِم علينا الله بنعمة النسيان والصفح وسعة الصدور.. فالله دائما عند ظنّ عبدهِ به.. ونحن نظن بالله خيرا، ونتفاءل الخير كي نجده.. علينا ألاّ نبخل بالتضحية من أجل أبنائنا وأحفادنا.. فقد عشنا ما فيه الكفاية، وآن الأوان كي نفكّر في من سيحملون المشعل بعدنَا في هذه الأرض الطيبة المُسالمة. 

لا نريد أن يرثوا عنّا كراهية ولا دماء.. ويجب أن نخشى الله ونحذر من هذا المحظور، ونفكّر في آخرتنا قبل دُنيانا.. لأن في صلاحها صلاحُ لأحوالنا اليوم، وأحوال أهالينا وبلدنا. 

علينا أن ننطلق اليوم قبل غدٍ.. وأن نسابق الزمن.. ونكسب الوقت.. حتى نوفّر طاقات، ونحقن دماء، ونحفظ أعراضا، ونعصم أرواحا، ونحفظ ثروات يسيلُ لها لُعاب الطامعين، ونسترد سيادتنا وكرامتنا وعزّتنا.. 

علينا أن نسارع إلى لَـــــمّ شملنا وأن نلقي بالسلاح جانبا.. 

علينا أن نتصافح ونتسامح ونتصالح فلم يُجدِنا السلاح نفعا.. ولم يجلبْ لنا التباغض مغنماً.. 

هدفنا تطوير منطقتنا، وحمايتها، وتعليم أبنائنا، وتضميد جراح من فقدوا الآباء والأمهات والأهالي كي يسترد مجتمعنا تماسكه وتضامنه.. كي يكون الجنوب نموذجا وقدوة سِـــلمٍ وحكمة وعقل كما كان آباؤنا وأجدادُنا دائما.. فالقتل والظّلم والكراهية والتمييز عبارات دخيلة على أرضنا غريبة عن إرثِ أسلافِنا وثقافتنا.. 

إلى المصالحة والإصلاح.. فالجنوب لا يريد إقصاء أحد من حضنه أو طرد أي من أبنائه أو نبذ أي مكوّن من مكوّناته، لأنه بحاجة إليهم كافة.. 

وليبيا لا تريد أن تكون خطرا لا على نفسها، ولا على جيرانها، ولا على العالم.. نحن قومٌ مسالِمُون نريد أن نعيد بناء بلدنا وننهض من كبوتنا بوعينا وبجهودنا وبمساعدة الخيّرين لنا كي (1) نعيد تفعيل مؤسسات بلدنا، و(2) نُرسِي الأمن والأمان، و(3) نُحسّن الأحوال المعيشية والخدميّة والصحّية قدر المستطاع، و(4) ننظر في الاحتياجات العاجلة، و(5) في استحقاقات عودة أبنائنا المهجّرين والناّزحين، و(6) إعادة ممتلكات المظلومين وتعويضهم حسب الاستطاعة والأولوية، وكل ما يوفّقنا الله لعمله من أجل الجميع.. 

أيها الحشد الطيّب، أيها الإخوة الكرام، 

إن الأمم تنهض دوما من كبواتها مهما طالت النزاعات ومهما كانت الصّعَابُ.. ولا بدّ لها من العودة إلى المسارات السليمة، والحياة الطبيعية. لكن علينا عمل كلّ شيء كي لا يتأخّر السلام، حتى تتجنب الشعوب والأوطان مزيد الدماء،ومزيد الخسائر، ومزيد التصدع الاجتماعي والعذاب النفسي والمعاناة الصحية والمعيشية..

وأنتم هنا تُمثلُون مختلف فعاليات هذه المنطقة الطيبة ومكوّناتها.. وأنتم أهل الحلّ والعقد فيها.. ومنكم آباء وأجداد وإخوة وأعمام وأخوال..ولديكم عوائل وأهالي ينتظرون منكم أن تتّفقوا على تأمين حياتهم ورفع معاناتهم وإنقاذ حاضرهم ومستقبلهم.. تذكّروا أن “كلّكم راعٍ وكلّكم مسئولٌعن رعيّته”، هذا تكليف شرعي ربّاني.. ولكم الاختيار وبأيديكم القرار. 

أسأل التوفيق والنجاح لاجتماعنا المبارك هذا.. وآمل أن تعكس مقرّراته ووثائقه الروح السائدة بيننا في هذه اللحظة، وأن تتلوَهُ خطوات عملية وميدانية شجاعة تعكس حقيقة إيماننا بما نقول.. 

نسأل الله أن يحقن دماءنا، ويصون حرماتنا، ويحمينا من أنفسنا،  ويحفظ بلدنا. 

يقول الحقّ سبحانه وتعالى:”وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.. 

صدق الله العظيم. 

اللهمّ إنّي قد بلّغتُ.. اللهمّ فاشهد.. 

والله من وراء القصد.. 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر