اشتهاء غير مشروع

أصبحنا مشوهين بعاهات فكرية فظيعة… مهما حملنا من ثقافات ومعارف وفنون وعلوم لازلنا بدو عشائريين وقبليين حتى النخاع، وهذا يضير كثيراً، فوجودنا بهذه الطبيعة، يهدد مستقبلنا ومستقبل وارثينا ويورّثهم تشوهاتنا، وانغلاقنا، وتكبرنا، وهمجيتنا المريبة، لتداخلها مع التسامح والحقد والعنطزة وأشياء أخرى!

بتّ على يقين أن المدنية لا تناسبنا وليست مقاسنا كمثل الحرية… فالليبيون رجالاً ونساء باتوا كائنات سياسية رهيبة، وبات الجميع لاعبي سياسة ومقامرين بالوطن بدعاوى الوطنية، التي يبدو أنها انحصرت وتجسدت في العمل السياسي فقط، فالإبداع الأدبي أو الموسيقي أوالعمل الحرفي والوظائف والمهن الطبية ليست دلائل على الوطنية، فالجميع يمارسون الانهمام بالوطن من خلال ارتداء عباءات السياسة وامتطاء الأنترنت، وإظهار فروسيتهم ونبلهم وحماستهم عبر صفحات الفيس بوك وتويتر، ومسجات الواتس آب والفايبر، وبات الوطن الافتراضي والوطنيون الافتراضيون على وسائط التكنولوجيا أكثر حيوية وحماسة من وطن الواقع ووطنييه!

الوطنية الافتراضية أزمة جديدة تضاف إلي أزمات ليبيا، والوطنيون الافتراضيون فرسان كلام ومبدعون حالهم كحال المتفرجين العرب على الدوري الأوروبي، يفقهون كل شيء ولكنهم لا يفعلون شيئاً، لأنهم عاجزون عن الفعل في حقيقتهم!

بلا ريب.. الليبيون شعب فاقد للهوية، وحالة الالتباس التي يعايشونها مع الوطن تسهم في التأزيم، وتحملهم إلى مراحل بدائية للنزاع لا تنتمي إلى زمننا، فتجعل الجميع يتعاطون نوستالوجيتهم بشهوة فظيعة، ويغرقون في تمجيد وهم الماضي بلذة استثنائية بديعة، مما جعل دعاة العودة والتشبث بأوتاد الماضي، والتغزل بأوهامه يتصدرون المشهد السياسي، وينالون المباركة الشعبوية ويتكفلون بريادتنا للعودة إلى المستقبل، الذي يحبذ لو يكون نسخة كربونية عن الماضي الوهمي، الذي تشربوه عبر أقاويل غوبلزية موبوءة صيغت لإرضاء أهواء الطغاة والمتنمرين، ولفقها كتبة مستأجرين لتحقيق مصالح وغايات ملوثة، ودُس فيها ما دُس “بضم الدال” من بواعث الفتن!

ينبغي أن لا نركن للتاريخ كثيراً، فالتاريخ يقرأ من اليمين إلى الشمال وبالعكس، وعادة ما تكتبه السلطة أو يخطه اللامنتمين في غفلة من الوعي، لذا علينا أن ننبش أرض التاريخ ونزيل الطمي ونبتعد عن الهوى ما استطعنا، وعلينا أن نجد الوطن في مكان آخر غير قبور الأسلاف، ونمتنع عن الفرار إلى زنازين الذاكرة، والتحصن وراء أسوارها خوفاً من المستقبل، فدفاعُنا عن الخطأ والظلم، وتشككنا بالمسار، وخروجنا الطوعي من اليقين إلى دخان التوجس والظنون، اقتراف متعمد للانهيار والفناء.

الأجدر نترحم على الموتى جميعاً ولا نتخذهم مسنداً للضغائن، ونتوقف عن تذكر سوى أؤلئك الأنقياء الذين ماتوا فُرادى.. لنتذكر سليمان أبولبيدة. ونتذكر أننا لم نخلق لنكون ألف وباء للانتقام والثأر، بل ألف وباء للمحبة والسلام.

لنعلن اشتهاءنا للوئام ونتورط فيه.. فقد آن الأوان لنرتدي إنسانيتنا التي خلعناها في غفلة وغباء، ونقلع عن السير وراء من لايعرفون سوى الخطابة والفرارِ، ونتلقف الحقيقةَ التي نحتاجها لتصليح خرائط المستقبل، ولنجد مكاناً لنا ولأهلينا وأبنائنا ولوطننا وسط الأغاني والورود، وليس وسط الدخان والشظايا والدماء.

مازلت حيَّا – ألفُ شكرٍ للمصادفةِ السعيدة!

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر