مقال الاستاذ الدكتور عقيل حسين عقيل ـ بعنوان .. فوضى الحلّ

 

وهنا، وجب أخذ العبر من التّاريخ، والمواعظ من أهل الحكمة، تفاديا للمؤلم والمحزن، قبل أن يتفشّى الفساد في البلاد وتنتشر الذئاب فيه، وتصبح العدالة في قفص الاتهام، ومن بعدها تتعدّد الرّايات في الوطن، ولا ضابط لإيقاع نشيده، ومن يقبل أن يترك الوطن للذّئاب؛ فلا يسأل عن حال الخراف فيه.

فالوطن والهويّة شيآن في واحد، وطن بلا هوية، جسد بلا روح، والهويّة مثل البوصلة، إن ضاعت؛ فلا مرفأ. في سبيلها الجُبن يُقبر، ولا مخيف، فذلك الخوف الذي يراه النّعام منقذا له من الصيّادين، يراه الرّجال مُوقِعا بهم في الفخّ، ومن يقبل دخول السّجن من أبوابه الواسعة، لا يليق به أن يقفز من نوافذه، بل يظل على ما هو عليه من عِبر، حتى تُحمل المسؤولية الوطنية من قِبل الذين تُلقى عليهم، دون أن يجعلوا من ظهور الخصوم مشاجبا.

فالسّاسة وأهل الدراية، عندما يرون صدور الخصوم تضيق غضبا، يعرفون أنّها ستنفجر في وجوههم؛ وحتى لا تنفجر يسرعون إلى فكّ الفتيل. ومع أنّ صدور الساسة تفيض بما تضيق به، لكنّ الغضب فيها ينفجر ولا تنفجر.

وهكذا هو حال المنتصرين، الذين لا يرون ضرورة تجبرهم على تقليل شأن الخصم؛ فهم يعرفون إن قللوا من شأنه في أنفسهم، رفعوا شأنه عند آخرين، وحتى لا يرفع شأنه، تتم مصافحته ليبقى صدره ساكنا، ولأنّهم يعرفون سكون الصدور ممتلئة سكون براكين؛ فهم على ثقة أنّها ستنفجر، ولكنّهم لا يعملون على إثارتها، وبالرغم من ذلك؛ فالمنتصرون اليوم ظلما، منهزمون غدا عدالة.

وحتى لا تسود العداوات على تراب الوطن، وجب الاعتراف بين الأخوة حقوقا تمارس، وواجبات تؤدّى، ومسؤوليات تُحمل، وإلّا سيكون الشّعب ليس بواحد في الوطن الواحد، فالوطن لا تؤسّس الدّولة فيه إلّا على قاعدة الاعتراف: (اعترف بي، اعترف بك، وإن أنكرت وجودي طرفاً رئيساً في الوطن، سأنكر وجودك طرفاً يماثلني فيه)، وهكذا هو حال الاعتبار: الذي ينبغي أن يؤسّس بين الأخوة على قاعدة: (إن اعتبرتني أعتبرك، وإن لم تعتبرني؛ فلا تنتظر منّي اعتبارا).

ولهذا، إذا تولّدت العداوات بين الأخوة؛ وشبّت بينهم نار الفتنة؛ فهي ستكون أشدّ من أن تكون بين الأعداء، وفقا لقوانين المغالبة القهرية: غالب ومغلوب (تابع ومتبوع) ممّا يجعل الرّضوخ بينهم وكأنّه أمر واقع.

أمّا نار الفتنة بين الأعداء فقانونها: (منتصر ومنهزم) ونتائجها استسلام إلى حين اغتنام الفرص؛ فالمنتصرون إذا ما جلسوا على طاولة التفاوض، عملوا على عدم إطالة زمن المفاوضات، من أجل تثبيت الحدود التي امتدوا فيها على حساب المنهزمين، حتى لا يستمدّ المنهزمون قوّتهم، وفي المقابل المنهزمون يعملون على إطالة زمن التفاوض اكتسابا للوقت الذي يمكّنهم من استمداد القوّة، التي بها تعاد الحدود بلا مظالم، وعندما يأتي ذلك اليوم، وتتكلّم فيه أفواه البنادق؛ فلا شكّ أنّ أفواه العقلاء ستصمت.

وعليه: فمن يرسم سياساته على قراءة الكفّ؛ أن لا يستغرب من الشيطان الوطني إن أوقد نار الفتنة بين الصفوف، ولحقت جلابيبه، ومن ثمّ؛ فمن يلتمس للفوضى عذرا؛ يعجّل بولادتها في بيته، وعندما تعمّ الفوضى، ينبغي أن يأخذ العقلاء خطوة للخلف، حتى تلد لهم حلّا.

فوضى الحلّ دموع عين، لا يفكّ شفرتها إلّا الموضوع الذي من أجله انهمرت؛ فإنّ كانت مولودة حُزنٍ، تسيل ساخنة على الخدّين مواجعا وألما، وإن كانت مولود فرحة؛ فالابتسامة دافئة على الخدين كالشّلال تنحدر؛ فلا حدود تستوقفها، ولا ضوابط تقيّدها، إيقاع موسيقاها قوّة (الفوضى)، تنحدر من علوٍ، إلى الرّكبتين تتصلُ، ومن بعدها القدمين إلى الأرضُ تنساب.

رذاذ الدّمعة فوضى مع النّسيم يتطاير فرحة من الشّروق إلى الغروب، ليرسم بألوان طيفه قوس قزحٍ، جماله يشدّ النّاظرين إليه، ويملأ القلوب بهجة، والعقول تتأمّل قبل أن يأتي المساء، ليرتدي لباسه في ليلهِ مع السّكون.

هذه، هي الدّمعة، وهكذا، هي الفوضى؛ فلا هروب من الفوضى بداية، ولا مفرّ للبداية من النهاية، مع الفارق بين الآلام؛ فمع إنّ آلام الولادة فرحة، وآلام النّهاية حزن، ولكن الفوضى البداية، والنّهاية غير ذلك؛ فهي على معكوس الدّلالة والمعني للحياة والموت، من حيث أنّ ولادتها حزن، ونهايتها فرحة، منها يخرج الحلّ كما يخرج الحيّ من الميّت.

فوضى الحلّ، خروج بالقوّة الفعّالة من المشاغبة إلى الاحترام، ومن التمسّك بالمصلحة الخَاصّة إلى القضايا العامّة، ومن عدم المبالاة إلى العناية والاهتمام، ومن الانفلات إلى الضبط، ومن سيادة المظالم إلى سيادة العدالة والقانون، ومن الأخذ بالرّذائل إلى الأخذ بالفضائل، ومن تقويض القيم إلى تعظيمها.

من هم موقدو نار الفوضى؟

الأقوياء عصبية وعدّة وعتادا.

ومن يوقد نار الفتنة؟

الضعفاء (أقلية وسياسة).

ومن الذين يتخندقون وراء المفاسد؟

الغاوون (لهواً وشهوةً).

ومن الذين يضحّون بالآخرين؟

أصحاب الأيديولوجيات.

ومن هم السجّانون؟

أصحاب العضلات المفتولة، والقلوب القاسية.

ومن الذين يقومون بكلّ ذلك في وقت واحد، ولا يبالون؟

الذين ينظرون لكلّ شيءٍ، ولا يبصرون شيئا.

ومن هم أولئك؟

المدّعون السياسة (الذين لا يرون إلّا أنفسهم).

نعم، إنّهم هم ولا غيرهم. وفي المقابل، من همّ أهل المواقف؟

الوطنيون (أصحاب الضمائر).

وأين هم؟

خطوة للخلف تقديرا للفوضى.

يا إلهي، الوطنيون يقدّرون الفوضى، ويقال عنهم: أنّهم أصحاب ضمائر! لو لم يكونوا أصحاب ضمائر لكانوا في قلبها.

بعد أن عرفنا أنّ للفوضى ساسة، هل لنا أن نعرف أصحاب رأس مالها؟ نعم، أصحاب رأس مال الفوضى هم:

ـ فقراء القيم.

ـ الرّاقصون على مزامير الثّعالب.

ـ المغنّون للأحزان.

ـ قراصنة المنافذ.

ـ المشايخ بلا مشيخة.

هل هذه دلائل إثبات الفوضى؟

لا، ليست هذه، بل دلائلها كثيرة، منها:

ـ خروج الأبناء عن طاعة الآباء الطّائعين لله تعالى.

ـ تكسير القيود الأخلاقية.

ـ تكميم الأفواه.

ـ توريث الحكم وفقا لقاعدة (شاء من شاء وأبى من أبى).

ـ المُدراة على العيوب والدّفاع عن مرتكبيها.

ـ تعمير السجون فوضى.

ـ تحويل مرابيع وصالونات الضيافة إلى مراقص للعائلات.

ومتى نعرف حقيقة أنّ الفوضى قد ألمّت بالوطن؟

ـ عندما يستباح تراب الوطن من قِبل الاستخبارات العالمية والإقليمية.

ـ عندما يصبح سفراء الدّول يلتقون بالمواطنين أفرادا وجماعات متى ما شاءوا.

ـ عندما يصبح وسطاء فكّ الفتيل بين بني الوطن أجانب.

ـ عندما تفلج الفرحة صدور أفراد الأسرة التي استطاعت أن تجمع مالا لتحرّر به أحدا من أفرادها من أيدي المختطفين.

ـ عندما تصبح رؤوس البلاد رؤوسها في الخارج.

ـ عندما تصبح حدود الدّولة بوابات بلا أبواب تحرسها.

ـ عندما يصبح الولاء للأحزاب على حساب الولاء للوطن.

ـ عندما تصبح ثروات الوطن تحت أيدٍ لا رقابة عليها.

ـ عندما يصبح المراقب بلا رقيب.

ـ عندما تنتخب الخراف ذئبا يمثلها في البرلمان.

ـ عندما تُقبل الثّعالب مشايخ لفكّ الخصام بين الدّواجن.

ـ عندما يطلق سراح القلق، والفزع، والرّعب، في المنازل والأماكن العامّة.

ـ عندما تفقد العدالة عنوانها وتفقد ذاكرتها الوطنية.

ـ عندما تفقد الأسر والعائلات بوصلة العِبر والتدبّر.

ـ عندما يغيّب الكبار خبرة وعلما وتجربة، ثمّ يصبح أهل الاقتداء والقدوة محلّ سخرية.

ـ عندما تصبح وسائل الإعلام أبواقا لمن يمكن له أن يصفّر فيها كما يشاء.

ـ عندما يصبح الجيش الوطني والشّرطة الوطنية في خبر كان.

عندما لا يميّز النّاس بين الوقوف تحية لراية الوطن، وبين الوقوف تحية للحكومة.

ـ عندما لا يميّز النّاس بين راية الوطن وبين رّايات الأقليات فيه.

ـ عندما يصبح مشايخ القبائل يقدّمون مصالح أبنائهم على حساب مصالح قبائلهم ومكاناتها.

ـ عندما لا تجد الثقة مكانا لتُغرس فيه.

ـ عندما يغزو اليأس والقنوط قلوب النّاس.

ـ عندما يجد المواطن نفسه مخيّرا بين الأخذ بالسيئ أو الأسوأ منه ولا يرفض.

ـ عندما يصبح من باع نفسه عبداً غير مخلص للعبوديّة.

ـ عندما يُقبّل النّاس أيادي الجُبناء ويحبّون على رؤوسهم.

ـ عندما يصبح كبار القوم عند أقوامهم وكأنّهم فاقدون للذاكرة، ومن هنا يخرج الحي من الميت، ومن هنا تلد الفوضى حلّا.

أ. د. عقيل حسين عقيل

28/7/2016

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر