المنطقة العربية على أبواب تغيير جيو-استراتيجي كبير

 
مرت المنطقة العربیة خلال العقود التي تلت التوقیع على اتفاقیة سایكس – بیكو ، والتي جاءت بعد انهیار سیطرة الإمبراطوریة العثمانیة بمراحل عدة ؛ بدأت بحقبة تكوین الدول الوطنیة ، والمطالبة بالاستقلال و والمد القومي الذي صاحب هذه النداءات ، وظهور الحركات التي تبنت هذا الخطاب خصوصا في منطقتي الشام ومصر والتي توافقت مع الملكیات الوطنیة في المنطقة ، والتي استطاعت أن ترسخ سلطتها على أنقاض الإنتدابین البریطاني والفرنسي في منطقة الخلیج العربي والعراق والأردن و شمال أفریقیا ، والتي أدركت الحاجة أو ضرورة تكوین تصور بخصوص تجمع جیو- سیاسي یجمع بینها ، وانتهى ذلك بولادة الجامعة العربیة
استطاعت الجامعة كمنظمة فضفاضة ، أن تصمد كمظلة سیاسیة لأكثر من ستة عقود .. غیر أن التغیرات التي طرأت على المنطقة والتي بدأت منذ نجاح ثورة الخمیني في ایران ، ثم الغزو العراقي للكویت وما تبعه من إحتلال العراق وتدمیر ما تبقى من امكاناته ، والحرب على الإرهاب بعد إرهاصات “الشرق الأوسط الجدید” التي تحدثت عنه كوندولیزا رایس، مستشارة الرئیس الأسبق جورج بوش ، وإنتهاء بتداعیات موجة الربیع العربي ؛ حیث وجدت الجامعة العربیة نفسها خلالها عاجزة عن أخذ زمام المبادرة في خضم تغیرات غیر مسبوقة تشهدها المنطقة والعالم ؛ من إعادة الإصطفاف والتحالفات في أوروبا والولایات المتحدة ، وخروج بریطانیا من الإتحاد الأوروبي ، وتنامي الخطاب الیمیني في أوروبا خصوصًا مع ازدیاد عدد ونوعیة الهجمات الإرهابیة التي تتبناها منظمات معروفة ومصّنفة بأنها إرهابیة . شكل وصول الرئیس الأمریكي دونالد ترامب آخر التطورات التي تنبيء بتغیرات جیو – سیاسیة كبیرة في طریقها إلى المنطقة أو أنها قد بدأت بالفعل تأخذ مسارها،  علي النقیض من كل التصورات والتهیؤات لدى من یدق طبول الفتنة بل الحرب بین العرب وامریكا الترامبیة
وتبدو الولايات المتحدة وكأنها ، خاصة مع ادارة الرئيس الجديد، الذي لا يميل الى ” الفلسفة ” في نظرته وتصرفاته المحلية ، وحتماً الدولية؛  ، اصبحت مكترثة بالاخطار التي يشكلها التجاوز الروسي للخطوط الحمراء التي كانت مرسومة منذ انتهاء الحرب الباردة على الاقل ، ومحاولات الاستغلال السياسي والعسكري لإدارة بوتين في توسيع النفوذ في إستفادة من الازمات والاوضاع المضطربة التي استفادت من نماذح التعاطي الامريكي حتى الآن مع الازمات
لايمكن التوقع وفقاً للقواعد الثابتة في إدارة العالم مع استثناءات محدودة  ؛  أن دولاً  لها علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة،تجد نفسها بعيداً عن الترتيبات الامريكية ، ولو شعرت انها تتعرض لاخطار حقيقية نتيجة لتلك الترتيبات ؛ رغم غموضها احياناً ، وتناقض اهدافها الظاهرة احياناً اخرى .. وتحديات هذا التحالف العتيد لاشك كبيرة، اولها معالجة بعض الازمات في المنطقة ، خاصة القضية الفلسطينية مع وتأثيرها على موازين الثقة والمصداقية بين اطرافه الاقليمية والحليف الأساس ، وكذلك الازمات في سوريا ، اليمن وليبيا  اذا كان الهدف حقيقةً الامن والاستقرار والسلام للمنطقة والعالم 

الفضاءات العربیة الجدیدة

تنقل مصادر دبلوماسیة غربیة لـ ” المختار العـربي ” أن هناك تصورات جدیدة یتم تناولها الآن والنقاش حولها بین سادة البیت الأبیض الجدد وزعماء ومسؤولین في المنطقة العربیة من أن هناك حاجة لیس فقط إقلیمیة بل ؛ دولیة لتشكیل قوة عربیة أو “حلف” عربي یضم دول الخلیج العربي بالإضافة الي مصر ولیبیا وصولاً الى تونس برعایة ودعم امریكیین وفقًا لصیغة أقرب الى شكل ومضمون حلف شمالي الاطلسي ” الناتو ” بما یحقق اهدافًا مشتركة في المنطقة والمحیط ، ولعل في ذلك بعضًا من ترجمة ماقاله الرئیس الامریكي حول الناتو ودوره واهمیته اللتان تحتاجان وفقًا لتصوره لـ ” روافد ” هي في هذه الحالة تذّكر ربما بافكار ، وصیغ لم یكتب لها الصمود فیما بعد الحرب العالمیة الثانیة علي أساس مبدأ ایزنهاور وكحلف بغداد والحلف المركزي ، وما تصاعد بعدها من احداث وتطورات
المصادر ذاتها تتحدث عن ؛ أن العلاقات الأمریكیة مع دول الخلیج العربیة ستكون مزدهرة یسودها التوافق الضروري  على الصعیدین السیاسي والاقتصادي ، وهما ركیزتان للتعاون الاستراتیجي الأبعد لهذا المشروع الكبیر ،  الذي لم تتضح بعد الآراء الأوروبیة وحتى الروسیة حوله ، ما عدا بریطانیا التي سیكون لها نصیباً منه ودورًا فیه ، كما كانت هي من قبل ، وكیف لا ؛ وهي صاحبة الإرث والخبرة والدرایة في المنطقة المقصودة هنا بالتحالف، هذا سیضمن طمأنینة للدول العربیة من مخاطر التهدید ، ولتأمين امنها الوطني ومواجهة الارهاب الذي يحيط بها ، بل ووصل الى اعماق بعضها، وضد التمدد الإیراني الذي تلقى الآن موجة من الإشارات السلبیة منذ قدوم الإدارة الأمریكیة الجدیدة بدءاً بحظر التأشیرات وصولاً للتحذیرات بخصوص الإطلاق الصاروخي الإیراني بدایة هذا الأسبوع ویرى مراقبون أن هذا “الحلف” قد یكون بدیلاً عن القوة العربیة المشتركة التي فشل مشروعها قبل ان یرى النور ، وعن التحالف الذي قام من اجل معالجة الاوضاع قي الیمن وواجهته صعوبات محسوبة
قد یشكك بعض المحللین بإمكانیة انضمام مصر إلى حلف أو تحالف یضمها جنباً إلى جنب مع بعض الدول الخلیجیة نظرًا للتوتر الذي شهدته هذه العلاقات في السنوات الأخیرة ؛ آخرها تلك شابت العلاقات مع السعودیة خصوصاً فیما یتعلق بقضیة جزیرتي تیران وصنافیر ، فالعلاقات المصرية الخليجية تظل ؛ استراتيجية ، والاهتمام الذي أبداه الرئیس الأمریكي ترامب بالعلاقات مع القاهرة والحدیث لمرات عدیدة مع الرئیس المصري عبدالفتاح السیسي قبل وبعد استلامه لسدة الحكم بالإضافة إلى بعض العوامل الاقتصادیة مثل اكتشافات حقول الغاز البحریة في البحر المتوسط قد تساعد على ردم الهوة وتحقیق التقارب اللازم . وتبدو على مقربة من هذا الترتیب المصري الخلیجي ؛ لیبیا ، التي تعد عمقًا استراتیجیًا هامًا لمصر وترتبط بها ارتباطًا وثیقًا ممتدا ، وسیكون لهذا التقارب أو الترتیب أثره المباشر على التسویة السیاسیة اللیبیة والتي سیكون ضرویًا أن تصل إلى استقرار مطلوب یتحقق بتقارب بین الأطراف المؤثرة هناك ، والتي تحتفظ مصر ودول الخلیج بعلاقات جیدة معها ، وهذا طبعًا سیكون بمباركة ورعایة أمریكیة مباشرة ، ویبدو هذا واضحًا في النشاط الملحوظ مؤخرًا في جهود التسویة التي ترعاها القاهرة والحدیث عن لقاءات فیها تجمع القیادات المعنیة ومنها رئیس مجلس النواب عقیلة صالح و رئیس المجلس الرئاسي فائز السراج والقائد العام للقوات المسلحة اللیبیة المشیر خلیفة حفتر 

تونس

وتبدو تونس أساسیة في الترتیبات الأمریكیة ، فتونس الدولة العربیة التي شكل فیها التعاطي السیاسي السلمي بین الأطیاف الفكریة والمكونات السیاسیة والحزبیة؛ نموذجًا لما یفترض أن یكون علیه الحال في باقي دول المنطقة إذا كان الربیع العربي صادقًا ، وتشكل حالة حزب النهضة نموذجًا فریدا للإسلام السیاسي الذي استطاع أن یدخل في تداول كامل للسلطة وهو ما نجحت فیه ، وهي تقدم نفسها كمثال أو تفسیر مختلف للإنخراط السیاسي الإسلامي مختلفاً عن جماعة الإخوان المسلمین ، وهو ماقد یشكل أساسًا لتفاهمات أوسع في المستقبل خصوصًا في الدول التيُ حظر فیها نشاط جماعة الإخوان المسلمین كمصر مثًلا

المغرب والجزائر؟

یبدو أن المغرب على أعتاب أدوار جدیدة یضطلع بها ، فخلال الأیام الماضیة كان واضحا أن المملكة المغربیة اتخذت مسارًا أكثر وضوحًا للعب دور في القارة الأفریقیة ، وفي خطوة ملفتة أعلن إنضمامه مجددا إلى الإتحاد الأفریقي بعد أن كان علق عضویته في التنظیم السابق المعروف بمنظمة الوحدة الأفریقیة منذ ثلاثة عقود ، وقام العاهل المغربي بالإعلان عن مبادرات إنسانیة لصالح القارة السمراء ثم قام بعد انتهاء اجتماعات أدیس أبابا بالتوجه إلى جنوب السودان حیث التقى الرئیس سلفاكیر في زیارة نادرة ولكنها ربما لن تكون الأخیرة في دور یبدو أن المغرب یعد نفسه للعبه في القارة السمراء التي شكل غیاب العقید معمر القذافي عنها فجوة وفراغًا لم یستطع أحدا ملأه، ربما لغیاب الدعم الأمریكي، والتنافس الصیني، الأوروبي والهندي فیها ، ولكن المغرب مؤهل لأن یكون في موقع متوسط بین هذه القوى لإحتفاظه بعلاقات متمیزة مع الولایات المتحدة وأوروبا
واذ تبدو الجزائر الدولة ذات التاریخ الطویل في أفریقیا حریصة أن تحافظ على هذا الدور ، واذ یؤثر فیها شعور بالقلق من انتقال عدوى الربیع العربي إلیها . ونجحت بعزل نفسها أمنیا عن محیطها لضمان استقرارها، وهي التي عانت من مواجهات دامیة وشبه حرب أهلیة لسنوات ، ونأت بنفسها عن إرهاصات الربیع العربي التي امتدت من تونس إلى مصر ثم لیبیا ونجحت في أن تبقي على الهدوء الداخلي فیها ؛ فستكون هذه المرة حریصة على الإبتعاد عن الإنضمام إلى أحلاف تأثرت بالربیع العربي، ولن تستطیع الإنضمام إلى المغرب نظرًا للاعتبارات و الأسباب السیاسیة المزمنة بین البلدین ، و یبقى المجال مفتوحا لعلاقات خاصة بینها وبین الولایات المتحدة كما هو علیه الحال منذ سنین، ما یعني تفاهما بینها وبین هذا التحالف، كما أن ذلك یتیح للجزائر التعامل مع نطاق استراتیجي لها لا ترید التخلي عنه في أوروبا وفرنسا بالذات

العراق وسوریا .. وإيران ..

نظرًا لأسباب متعددة لا یبدو أن العراق أو سوریا مثلاً مؤهلتان للانضمام لهذا الحلف ،إذا صدقت التنبؤات وأن هذین البلدین یسیران نحو التقسیم الذي بدأت معالمه واضحة ، ومستقبلهما الجیو – سیاسي لا یبدو واضحا كثیرًا، وإذا كانت إیران التي ستعتبر – بالضرورة – أن هذا الحلف الجدید معادي لها لن تسمح بالإقتراب كثیرًا من سوریا والعراق وحتى على امتداد ما اصطلح على تسمیته دغدغة لعواطف ومصالح إیران بالهلال الشیعي الذي یعتبره النظام الإیراني الحالي حقیقة ینبغي تكریسها بل وأن یجعل له نجوما حوله .. مضافا إلى ذلك أن دول الخلیج العربي لا تحبذ أن یكون العراق جزءا من منظومة سیاسیة حقیقیة أو عسكریة تشملها ، ولكن ذلك لا يعني القبول بما انجزته ايران في البلدين ، بل وحتى لبنان واليمن ، مما يعني ان طاولة ” البلياردو ” الايرانية ستكون امام الجميع كبيرة 

أحلاف إقلیمیة

ویبدو هذا النموذج الذي تحدثنا عنه الذي قد یظن البعض أنه شبه جاهز الآن ولا  یستغرق استكماله أكثر من نهایة العام الجاري ، سیكون مقدمة لعدد محدود من الصیغ التحالفیة حول العالم تتبناها الإدارة الأمریكیة الجدیدة قد یكون بعضها في آسیا الوسطى ، وجنوب شرق آسیا، وحتى في داخل بعض الإتحاد الأوروبي ، كل ذلك مرهون بالمدى الذي یمكن أن یصل إلیه ترامب في سعیه لإدارة العالم على غرار إدارته لإمبراطوریته المالیة ، ولن یجد صعوبة في أن یقنع صدیقه الرئیس بوتین بنوایاه الحسنة ؛ خاصة إذا سلم له بأن أوكرانیا هي أقرب إلى موسكو ، والأقربون أولى بالمعروف 

د. مالك الشاوش 

shawesh.libya@gmail.com

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر