كيف اتفقت الولايات المتحدة وروسيا على التخلص من فاغنر .. بوساطة تركية


 ‏يبدو أن الحديث عما ستؤول إليه الأوضاع في روسيا سيكون صعبا خلال هذه ‏الساعات والأيام القليلة و التي يمكن أن تتحول فيها دفة التطورات بشكل لا يمكن إدراك أبعاده في مشهد يحبس الأنفاس بعد اشهر طوال من جمود أصاب جبهة المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا خصوصا مع تصاعد الأحداث ونهايتها بشكل أقرب لأن يكون مسرحياً

‏وفيما نحت التحليلات الصحفية والأمنية التي تناولت تطورات الاوضاع و منذ الدقائق الأولى نحو تأويلها باعتبارها انقلاباً داخليا داخل المنظومة الروسية العسكرية والأمنية، ربما لا تشمل قيادة مجموعة فاغنر فحسب بل هي عبارة عن شرخ اكبر وأعمق داخل اروقة الجيش الروسي والكرملين  تحديدا أو ربما تكتيكاً اتخذه الرئيس  الروسي لكشف أعداءه داخل منظومته العليا ، وقد تناولت كبريات وسائل الإعلام العالمية والدولية زاوية الرؤية هذه بالتشخيص والتحليل ومدعومة بالوقائع والأحداث والمعلومات

‏إنما نعتقد أن هناك زاوية أخرى تبدو كذلك مدعومة  بوقائع وأحداث تتالت خلال الأشهر الماضية وقد توفر أرضية لفهم ما يحدث في روسيا وماذا يعني هذا لبقية دول العالم وتحديدا منطقتنا العربية والشرق اوسطية

اتفاق روسي أمريكي برعاية تركية 

‏منذ اندلاع الأزمة الروسية الاوكرانية والتصعيد الغربي سواء سياسيا أو اعلامياً وعسكريا ضد روسيا، قد يستبعد البعض إمكانية أن يكون هناك ترتيبات روسية أمريكية تفسر ما يحدث الآن بين كل من الكرملين وقيادة مجموعة فاغنر ولكن تسلسلاً منطقيا للتحركات الأمريكية في منطقة شمال إفريقيا وتحديدا بين كل من ليبيا ومصر بداية العام الحالي و التي قام بها رئيس جهاز الاستخبارات الأمريكية المركزية وليام بيرنز التي أثار خلالها إشكالية تواجد قوات فاغنر داخل ليبيا وهو ما اعتبره بعض المحللين في وقتها محاولة أمريكية  للضغط على روسيا في جبهات  أخرى غير تلك الاوكرانية، و ترافق هذا مع تصنيف الكونجرس الأمريكي مجموعة فاغنر كمجموعة “إجرامية” وتطور الأحداث لاحقا في السودان وبروز دور مجموعة فاغنر كحليف لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو ، وتسليط العديد من دوائر ومراكز البحث العالمية الضوء على الدور الذي تلعبه فاغنر في الترتيبات الاستراتيجي الروسية داخل أفريقيا وخارجها. 

هذه التطورات قابلها تصريحات بدأت خافتة من قبل زعيم فاغنر وتطورت خلال الأشهر الماضية إلى تصريحات واضحة تتهم قيادات عليا روسية منها تحديدا وزير الدفاع بإستهداف المجموعة والتآمر عليها وذلك من خلال تركها مكشوفة أمام القوات الاوكرانية تحت وطأة نقص الإمدادات والذخيرة، وهو الأمر الذي أثاره علامات استفهام حول ديناميكية العلاقة بين القيادات العليا روسيا وبريجوجين، ولم يستبعد بعض المراقبين أن تكون هذه الحرب الكلامية جزءاً من  تكتيك التضليل الاستراتيجي الروسي 

‏من وجهة نظرنا فإن الطرفين الروسي والأمريكي على دراية تامة بالحاجة إلى خفض مستوى التوتر بينهما والذي ارتفع إلى مستويات ذكرت العالم بحقبة الحرب الباردة ، بما رافقها من التلويح غير المباشر استعمال الأسلحة النووية، وإدراك الطرفين كذلك التغيرات التي يمر بها العالم خلال السنوات الماضية وعدم استقرار الصيغة النهائية للنظام العالمي الجديد

‏هذه الدراية ليست وليدة اللحظة بل هي جزء من العقيدة التي تحكم التوازن الاستراتيجي بين القوى العظمى والتي تحرص على أن تكون القنوات الغير مباشره مدخلا لضمان عدم خروج الامور عن السيطرة. 

‏التخلص من قوات ڤاغنر ليس هو مطلبا غربياً فحسب ولكنه أيضا من مصلحة روسيا وبوتين الذي يعي أن استعماله لهذه المجموعة في كسب مواقع استراتيجية قد إستنفذ صلاحيته، وبالتأكيد لم يغب على الرئيس الروسي أنه عليه أم عاجلا أو آجلا التخلص من مسؤولية ربط هذه المجموعة بالنظام الرسمي الروسي،  و يبدو منطقيا استهداف الكرملين رأس التنظيم في الجبهة الاوكرانية بدل التعامل معه فرديا في سحابة ودول أخرى يتواجد فيها أعداد من مقاتلي ڤاغنر مثل ليبيا او إفريقيا الوسطى أو مالي أو غيرها، وهذا بالطبع يوفر أيضا على الطرف الأمريكي الوقت والجهد وأيضا تجنب أثاره المزيد من القلاقل في هذه الساحات والدول في وقت تهدف فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرساء قواعد استراتيجيتها و رؤيتها للمنطقة سواء في أفريقيا أو منطقة الساحل الأفريقي تحديدا والمرتبط برؤيتها للشرق الأوسط عموما و تعاملها مع المنافسة الصينية لمناطق النفوذ المستقبلية

وبمراجعة بسيطة للتصريحات والتهديدات التي يفجيني بريجوجين التي كان يطلقها خلال الأشهر الماضية والتي استهدفت وزير الدفاع الروسي بشكل مباشر و الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل غير مباشر، نستطيع أن ندرك أن قائد مجموعة ڤاغنر كان علي دراية بما يحدث من نقاش خلف الكواليس بين رؤسائه في الكرملين و نظرائهم في البيت الأبيض وهو ما ظهر جلياً من قلق وتوتر وشراسة على وجهه وكلماته

ويبدو أنه خلال الساعات والايام القليلة الماضية فإن الضوء الأخضر قد أعطي بشكل نهائي لتنفيذ إجراءات تحد من الاضطرار الى تصفية يفجيني بريجوجين بشكل دموي وترجم هذا إلى خطوات تمثلت في أحداث دراماتيكية عاشتها مدينة روستوك الروسية حبس خلالها العالم أنفاسه أمام ما يحدث من فوضى غير معهودة في روسيا المنضبطة حتى النخاع تحت إمرة الكرملين ، لتنتهي فصول هذه الاحداث المتسارعة كما بدأت ، فجأة وبوساطة يبدو أنها كانت معدة سلفاً كجزء من الترتيبات الروسية أو أنها فعلاً كانت وليدة اللحظة،  و التي ربما لم يكن الأمريكيون على علم مسبق بكامل تفاصيلها ، وانما على علم بمآلها 

ويبدو أن مجموعة ڤاغنر ستخضع إلى عملية إعادة هيكلة بعد خروج زعيمها وهو ما وضح من خلال اعلان الكرملين من أنه سيعطي المقاتلين الذي يلقون أسلحتهم الفرصة ليس فقط للعفو ولكن للانضمام الى الجيش الروسي 

‏الرعاية والشراكة التركية ؟

ليس سراً أن تركيا استطاعت أن يكون لها علاقة خاصة بروسيا ، على الرغم من كونها عضواً فاعلاً ومهماً في منظمة الناتو ، إلى حد عقد صفقات الاستحواذ على منظومة S-400 الدفاعية الروسية والتي أثارت حفيظة شركائها في الناتو وعلى راسهم الولايات المتحدة الأمريكية

‏وعلى الرغم من بعض التوتر الذي يشوب العلاقة بين الفينه والأخرى، وخصوصا في النقاط المتقاطعة كالملف السوري على سبيل المثال، الا أن هذا التقاطع لم يمنع من إقامة علاقة مستقرة استطاعت الولايات المتحدة من أن تستثمرها كمساحة مستقرة للحوار وتبادل الآراء وفي هذه الحالة التي نناقشها هنا ، رعاية وضمان اتفاق أمريكي روسي 

هذه الرعاية للمباحثات والضمان الذي يحتاجه الطرفان الأمريكي والروسي لاعادة الثقة بينهما ، تتطلب كذلك أن يلعب الطرف التركي دوراً مهماً كـ “مجال وسيط” يتولى مهامٍ يستطيع من خلالها كل طرف أن يضمن مصالحه الاستراتيجية على المدى المتوسط والطويل 

فالطرف الروسي من جهة يحتاج لضمان الحفاظ على مكتسباته التي استطاع تحقيقها في منطقة شمال أفريقيا و الساحل ووسط أفريقيا ، وهو يعلم أن الأسلوب التركي في إدارة الملف الأفريقي سيكون متناغماً مع أسلوبه ومتوافقاً مع قدرته على احتلال المواقع التي كانت تتمتع بها فرنسا في الماضي، كما تمثل تركيا حاضنة اقتصادية تم التأكد من فعاليتها بعد احتوائها الهادئ لرؤوس الأموال الروسية التي اضطرت لمغادرة أوروبا بعد فرض العقوبات الاقتصادية التي أعقبت بدء الأزمة الروسية الاوكرانية

‏ولعل أبرز علامات هذا الترتيب او التنسيق بين الطرفين هو المكالمة الهاتفية التي جمعت بين الرئيسين التركي والروسي باعتبارها أول تواصل مباشر بين الرئيس الروسي وأي من قادة العالم اثر تحركات مجموعة ڤاغنر تجاه موسكو.

‏أما الطرف الأمريكي فلا نحتاج طويلا لأن نثبت أو نؤكد على متانة علاقته مع الطرف التركي ، فالولايات المتحدة الأمريكية تعي في سعيها المتأني تجاه إيقاف المد الصيني، ضرورة اكتساب حلفاء أقوياء لهم الوزن الاستراتيجي الكافي للسيطرة على ساحات التنافس الاستراتيجي المستقبلي مع الصين ومنها وأبرزها ربما ، الساحة الإفريقية. فالجمهورية الإتحادية الروسية ليست عدوا استراتيجياً للولايات المتحدة، ولكنها لا تستطيع أن تكون حليفاً  مباشرا كذلك لاعتبارات  عديدة، وهو ما يفهمه المسؤولون الأمريكيون بوضوح ، وقد نجادل بأن الأزمة الاوكرانية هي اوضح مثال للأسلوب الذي تتبعه الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا

‏هذا السعي الأمريكي تجاه بناء شركاء استراتيجيين يستطيعون إدارة ملفات إقليمية هو ما يعطي تركيا القدرة على أن تكون أحد اللاعبين الكبار في محيطها الكبير من إفريقيا إلى المنطقة العربية وحتى آسيا الوسطى

‏هذا السعي يبدو انه يترجم أيضا إلى علاقة مع أطراف لها حجم مماثل مثل الهند وربما أيضا مع إيران، مع ملاحظة أن الحالة الإيرانية تتطلب معالجة أكثر تعقيدا ودقة نظرا لي عوامل عدة وخصوصا بعد أن سبقت الصين نظيرها الأمريكي برعاية اتفاقية سعودي إيراني وهو ما سنتناوله في حديثنا القادم باذن الله 

د. مالك الشاوش

25 يونيو 2023

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر