ترجل الكوزموبوليتاني .. محمود جبريل

 

محمود جبريل وما أدراك ما محمود جبريل

إنسان استثنائي، قل نظرائه على المستوى العربي، وسيظل هامة من هامات ليبيا المميزة التي وإن حدث الاختلاف والخلاف معها أو حولها يسود تلقائياً الوفاق والاتفاق حول علوها وتفردها، وتظل ميزة محمود بوصفه خبير استراتيجي ومفكر مستقبلي هي انهمامه اللامحدود بمستقبل المنطقة العربية بشكل عام وليبيا بشكل خاص

المستقبل الذي ظل الدكتور محمود جبريل مهموما ومهتما به لمدة أكثر من عشرين سنة، ويطالعه ويتفحصه بفكر عبر نافذة الاقتصاد بالدرجة الأولى، ويراه متلوناً وربما يخضع لقوانين جديدة ومتجددة رفض استقباله، وأودعه في ثرى قاهرة المعز بصمت رهيب في زمن استثنائي لم يسبق له مثيل، فانتهت حياة في القاهرة وافتتحت خيمة عزاء في بني وليد وغاب محمود

بموجب العرف والتقليد اللذين أدمنا الطأطأة لهما، أو ربما بموجب التحسر المعتق اللاواعي الذي يتملكنا بوصفنا أشهر وأقدم ذوي الحسرة، نذكر محمود في أربعينيته لنترحم عليه ونلقي بعض الضوء على شخصيته، التي امتزجت فيها رومانسية الحالم بوجودية المفكر بتنظيم الاستراتيجي ونعترف له بمنطلقاته ورؤاه التفاؤلية في الأغلب الأعم

كان محمود استشارياً هوية وهوي ، فاعتاد قول كل شيء كما هو وكما يراه باعتباره الحقيقة المنطقية التي يجب أن تقال مهما كلف الأمر، والتي بدونها وبدون المجاهرة بها لن يكون الإصلاح ممكنا، فقول الحقيقة حتمي وإن لم يكن هنالك أمل ما ورائه ، واستسلام محمود إلى قناعته بضرورة الاصطدام بالحقيقة ودفع ثمن ذلك الاصطدام بشكل طوعي رفع سقف فكره وجعله يجتهد في محاولات تشكيل واقعاً يتطابق مع الصورة المعنوية التي يختزنها في ذهنه أو التي يظن أنها ملائمة وفق منطقه العلمي ” العلماني” للمستقبل لأنها تحقق اشتراطاته، فالاضطراب والاختلال بالنسبة له أكثر عمقاً وتجذراً في المنطقة العربية من كل أشكال النظم الرائجة، والاستيقاظ من الفوضى والانخراط والتموضع في فضاءات العولمة بشكل طبيعي بالنسبة لليبيا بلده وكل بلدان الشرق الأوسط وفق معايير العولمة أهم ضرورات المستقبل العالمي المشترك، فقد كان مسكوناً على الدوام بهاجس التغيير والتنظيم والارتكاز الأساسي على رفع قدرات المواطن وتدريبه للقيام بأعباء التنمية والتقدم

لم تكن حسابات محمود حسابات ربح وخسارة، ولم يكن داعية للحرية السياسية بل للتحرر من معوقات التنمية، ولأنه لم يكن في سرب المفكر المستقبلي المهدي المنجرة وفي توافق دائم معه في الرؤى ، فقد اعتقد محمود أن بناء الهوية للاقتصادات المحلية هي أساس انطلاقة التنمية، في حين يرى المهدي أن بناء الثقافة هو الأساس، وهما يشتركان في عداء الآناركية المهيمنة على بلدان العرب ويتفقان في ضرورة الارتقاء بقدرات الانسان وسقايته أبجديات المستقبل ، وهما سوياً متشائمين على المدى القصير ومتفائلين على المدى البعيد، لذا يعد محمود بلا شك منجرة ليبيا حتى في كونه مبعداً

اعتاد محمود تقديم حلول إيجابية ووضع خطط تنظيمية لهياكل المؤسسات ، وبصماته جلية في مؤسسات الشارقة ودبي وأبوظبي وسلطنة عمان كخبير تخطيط استراتيجي، فقد أكدت أعماله أنه أكثر دقة من غيره في التنظيم الإداري، وأن رؤيته للمستقبل أكثر عمقا واتساعا، فدأبه على تقديم الاستشارات والتدريب وراؤه ولا شك دوافع إصلاحية وتنموية، وقد أدى دوره باستثنائية مهيبة وبشكل بعيداً جداً عن الرتابة المعتادة في فضاءنا التنموي، و كان هدفه الأساسي دائماً منع حدوث الفوضى وإيجاد حلول للمشاكل البنيوية من خلال فكر تنظيمي ينطلق غالباً من رؤى فلسفية متفائلة تتميز بنزوعها الفاضح إلى إعادة البناء سواء عن طريق التغيير الجذري أو عن طريق إعادة الهيكلة والتنظيم، لتنطلق الإدارة من قيود الحاضر إلى آفاق المستقبل متوائمة مع بناء وتنمية وتأهيل القدرات البشرية

حينما وقع محمود الاستشاري في حبائل السياسة لعب دوره التأسيسي للحد من الفوضى المحتملة، ولحساسيته الفائقة بالمخاطر المستقبلية ويقينه أن الحرية المنشودة هي الإرادة الفاعلة الواعية التي تظهر في أصعب الظروف، لذا دخل حلبة السياسية وحمل أعباء ثورة فبراير على عاتقه في أحلك مراحلها

تعامل محمود مع السياسة على أنها إدارة الأهداف الناضجة، وحاول إمساك خيوط التطورات الموقفية بيديه، والتوأمة والتوفيق بين الربيع العربي الذي تمثله الانتفاضات الشعبية الحالمة وبين الربيع الذي يوافق رؤى وأهداف “انترناشيونال كرايسز جروب” وتديره الدول العظمى، وسعى لإحداث تداخلات في استراتيجيات التحول العالمي من حالة المواجهة إلى حالة الاحتواء

عين محمود وفكره كانا مركزان على نصف الكأس المملوء ونسى أن اهتزازات ركح السياسة سيؤدي بلا ريب إلى تشقق الكأس وفراغها كلياً بالتدريج ، وأن حالة السيولة التي أحدثها الربيع العربي تقابلها حالة سيولة شاملة في السياسة والاقتصاد والإدارة والأهداف والوعي أيضاً

محمود جبريل كوزموبوليتاني اكتشف استحالة القفز لأعلى في حالة السقوط باتجاه الواقع، ومثله في ليبيا كمثل سليمان الباروني وبشير السعداوي ستتأخر ليبيا كثيراً جداً عن وضع عرجون بلح على قبره كما تأخرت عن سليمان وبشير

أ/ عبد الواحد حركات 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر