حُلولٌ ويا ليتَها لا تَحدُثُ

مع أنَّ مفهوم الحلِّ هو ما يَقبلهُ المتخالفونَ تسويةً عادلةً، فإنَّ المتصدِّرين للمشهدِ السياسي الليبيّ لن يتفقوا عليه؛ لأنَّهم يدركون أنَّ الحلَّ مصرٌّ على إزاحتهم مِن المشهدِ؛ ومن ثمَّ فكلَّما سمعوا كلمة الحلّ قالت لهم أنفسهم: يا ليتهُ لا يحدثُ.
ومع أنَّ الليبيين في دائرة المتوقّع يأملون اعتماد الميزانيّة العامَّة المقدّمة لهذا العام؛ لحلحلة أحوالهم، فإنَّهم في دائرة غير المتوقَّع لا يرون في اعتماد الميزانيَّة إلَّا إعطاءَ إذنٍ لقتالٍ من جديدٍ؛ إذ لا إمكانيّة لتسوية نزيهة لميزانيّة تقدّر بالمليارت في أشهرٍ محدودةٍ إلَّا إمكانيّة اختلاق اقتتالٍ به تسوَّى الميزانيَّة بلا محاسبة.
ومع أنَّ آمال الليبيين في دائرة المتوقّع ترى من الضروريَّات والأولويَّات المأمولة أنْ يتم تغيير محافظ البنك المركزي، فإنَّ دائرة غير المتوقَّع ترى إنْ تمَّ تغييره في هذا الوقت فتغييره لا محالة سيؤدّي إلى اقتتال يسوّي منازل الليبيين على رؤوسهم بالأرض؛ لأنَّ البنك المركزي بنكٌ وطنيٌّ؛ فلا يليق أنْ يَسمى على أيِّ إقليمٍ من الأقاليم الثلاثة، ولا يوضع حصّة للتحاصص عليه، أي: كيف لنا أنْ نقبل بقوانينه المركزيّة التي منحته صفة البنك المركزي، ثمّ نقول: لا بدَّ أن يكون رئيسه إقليميًّا؟!
ومع أنَّ دائرة المتوقّع لا ترى إمكانيَّة لإعادة هيبة الدّولة الليبيَّة، وتأمين حدودها، وترسيخ سيادة شعبها، والمحافظة على هويّتها إلَّا بتوحيد الجيش الليبي (قائدًا عامًّا وقائدًا أعلى)، فإنَّ دائرة غير المتوقّع لا ترى وجودًا لرغبة موضوعيَّة من قبل رؤوس المشهد السياسي بها تتيسّر سُبل اختيار القائد العام للجيش الليبي.
وكذلك مع أنَّ رؤوس المشهد السّياسي يعرفون أنَّ الانتخابات حلٌّ مُرْضٍ لجميع الليبيين، وأنَّها المخرج والمنقذ من التأزُّمات؛ فإنّ معظمهم في حيرةٍ من أمرهم؛ بين غُصّة إنْ اعترف بها، وحُرقة قلبٍ إنْ باركها، وهذا يعني: لا للانتخابات حُرقةً وغُصّةً.
ومع أنَّ الليبيين مُصرّونَ على إجراء الانتخابات في موعدها المرتقب في24 من ديسمبر المقبل، فإنَّ الذين لا يأملون إجرائها في موعدها قد أسعدهم الاختلاف على أن تكون الانتخابات مباشرة من الشَّعب أو أنْ تكون مِن قِبلِ مجلس النواب، وحتى لا يكون هذا الاختلاف المشجب الذي تُعلّق الانتخابات عليه على غير موعدها؛ فلِمَ لا تدمج الطَّريقتين معًا:
الطّريقة الأولى: أنْ تجرى الانتخابات من الشَّعب مباشرة (قوائم ثلاثيَّة، وأفراد مُستقلّين)، والقوائم مهما تعدّدت فلن تكون إلَّا ثلاثيَّة (مرشحٌ عن كلِّ إقليم).
الطّريقة الثَّانية: ذات احتمالين: فوز الفرد المستقل، أو فوز القائمة الثلاثيّة، أي: فوز مَن حصل على الأكثريةِ مُستقلًّا أو قَائمةً. وفي حالة فوز القائمة تعرض الأسماء الثلاثة (القائمة الفائزة) على مجلس النّواب للتصويت على الفائزين الثلاثة، ومن يتحصّل على أكثر الأصوات يصبح رئيسًا، ويصبح الاثنان من بعده نائبين للرّئيس، أمَّا في حالة فوز الفرد المستقل بحصوله على أكثر الأصوات فيصبح اختياره المباشر كافيًا ووافيًا لرئاسة البلاد.
ومع أنَّ الانتخابات حلٌّ فإنَّها إنْ تَـمَّت عن غير دستورٍ لا شكّ أنَّه سَيُشارُ إليها بما سيشارُ به من علامات الاستفهام والتعجّب، ومع ذلك نلتمس العذر لنقول: ابدأوا مع النَّاسِ من حيثُ هم إصلاحًا؛ حتى يرشدوا إلى ما يجب أن يكونوا عليه حلًّا.
ومِن الحلول التي لا يأملُها الليبيون، ويقولون عنها: يا ليتها لا تحدث، هي تلك الحلول التي يأملها رؤوس المشهد السياسي، وهي: وجوب استمرار الخلاف بين الليبيين؛ لتبقى ليبيا على ما هي عليه خلافًا؛ ذلك لأنَّهم لا يرون ضامنًا لبقائهم رؤوسًا فيها إلَّا بقائها هكذا؛ هي على ما هي عليه عِلّة.

ومع أنَّ بعض النَّاس لا يوجب مشاركة (بركان الغضب ولا الكرامة) في إيجاد حلٍّ ولا يباركه، فإنَّ دائرة غير المتوقّع تقول: إلى متى سيتم السُّكوت على المسكوت عليه؟ ثمَّ تقول بلا تردد: لا حلّ للمشكل السياسي الليبي إلَّا و(البركان) فيه و(الكرامة) وجهًا لوجهٍ؛ وإلَّا هل يمكن أنْ يُحلَّ مشكلٌ وأطراف حلِّه مغيّبة؟
وحتى لا يقول أحدٌ: إنَّ الطّرفين (بركان الغضب والكرامة) لا يرغبان حلًّا، فالجواب: لو لم يكونا راغبين في الحلِّ لما اتَّفقا على لجنةٍ مِن: 5 + 5، ومع أنَّهما اتفقا، فإنَّ قرارات الحلّ لا تكون إلَّا في دواليب السّياسة، وتحت طاولات التفاوض، ونوايا السّياسيين، الذين أجمعوا على تغييب الطَّرفين الرّئيسين من المشهد السياسي، واستحضروا على حسابهم أُناسًا مِن المتفرِّجين.

وبناء على ما تقدّم: ليس كلّ الليبيين (كرامة وبركان غضب)؛ فالليبيون بلا استثناء يجمعهم التَّاريخ الوطني من الحدود إلى الحدود؛ قيم خيّرة، وفضائل حميدة، وهويّةٌ وطنيَّة، وإرادة شعب ترفض التغييب والتهميش والإقصاء والعزل السياسي، وهذه الموجبات المرضية لا يأمل سيادتها إلَّا مَن يأمل سيادة الحلّ (ليبيا فوق الرُّؤوس) وغيرها أقدامه تمشي على الأرض. ومع أنَّ بعض الرؤوس يتظاهرون بنعومةٍ في سياستهم بغاية شدِّ الغير إليهم، فإنَّهم سيفاجئون بأنَّ الغير غير ذلك.
ومع أنَّ دائرة المتوقّع تستوجب الانخراط في الأحزاب؛ بغاية المشاركة في العمل السياسي وخوض الانتخابات المأمولة، فإنَّ الليبيين ليس لديهم تجربة حزبيَّة ناجحة ورائدة يُمكن أنْ يستأنس إليها، ومع ذلك أيضًا لليبيين حُكمٌ مسبقٌ مفاده: أنَّ لسان حال الأحزاب لن يخرج عن قولِ: (حِزبُنا ومِنْ بعدهِ الطّوفان)؛ ولذا في الوقت الذي فيه الأحزاب المتقدّمة تتنافس؛ بغاية القضاء على البطالة، ورفع المستوى التعليمي والصّحي للمواطنين، وتيسير جميع الخدمات مع تجويدها وتحسينها وزيادة رفعتها، فإنَّ أحزابنا لا ترى الوطن إلَّا غنيمة.

ومع أنَّ الليبيين يأملون مصالحة وطنيّة تُضمّد الجراح، وتُعيد اللُّحمة والهيبة، فإنَّ رؤوس الفتنة من بعد قولهم: (يا ليتَها لا تَحدث) يَصبُّون مزيدًا من الوقود على الموقود شدّة؛ ذلك لأنَّ رؤوس الفتنة لا يُمكن أن يجنحوا للسّلم والمصالحة الوطنيَّة بما أنَّهم يستشعرون القوّة التي تدفعهم إلى السياسة بلا سياسة، وتجعلهم وعاظ بلا موعظة، ومشايخ بلا مشيخة، ووجهاء بلا وجاهة؛ ومن ثمَّ فأنفاس المصالحة الوطنية تختنق، وبخاصّةٍ أنَّ السّلاح المتطوِّر والعتاد المتطوِّر في حالة تزايدٍ مستمرٍّ، وأنَّ المأجورين ما يزالون يتوافدون.

ومع أنَّ دائرة المتوقّع ترسّخُ أنَّ التَّاريخ الليبي المشرّف يدعم آمال الليبيين ويسندُ مطالبهم بإخراج القوَّات الأجنبيَّة والمرتزقة الأجانب مِن البلاد، فإنَّ دائرة غير المتوقَّع تفترض: إذا انسحبت قوات الفاغنر الرُّوسيَّة وبقيت القوات التركيّة؛ فإنَّ قوات (البركان) لا شكّ أنَّها ستستشعر حيويَّةٍ تحفّزها على التمدّد، وتدفعها شرقًا على الرّغم من الخطِّ الأحمر، وبالتمام ستكون حيويّة قوات (الكرامة) متحفّزة للتمدّد غربًا في حالة ما إذا انسحبت القوات التركيّة على الرَّغم من الخط الأحمر؛ وكذلك إذا انسحبت كل القوات الأجنبيَّة في وقتٍ واحدٍ وتركت فراغًا فإنَّ الفراغ لا بدَّ وأن يُملئ بالقوّة.

ومع أنَّ دائرة المتوقّع تقول: لم تأتِ قوات الفاغنر الرُّوسيَّة إلى ليبيا لتبقى، فإنَّ دائرة غير المتوقّع ترى أنَّ قوَّات الفاغنر لم تأتِ إلى ليبيا هكذا عبثًا، بل جاءت بغاية التمدّد السياسي الرُّوسيّ إلى القارة الإفريقيَّة جنبًا إلى جنبٍ مع التمدّد الصِّيني رؤيةً واستثمارًا، وهذه الإستراتيجيَّة ستجعل من نقاط الخطوط الحمراء التي ثمّ تثبيتها بين الليبيين المتخاصمين نقاطًا صالحةً لضرب أوتاد الفاغنر في التراب الليبي، وعيون السياسة الرُّوسيّة على إفريقيا؛ ومن ثمَّ فلن تخرج قوات الفاغنر من ليبيا إلَّا إذا حدثت تفاهمات روسيَّة أمريكيَّة مع ضغوطٍ واضحة مِن حلفِ الناتو شريطة أنْ لا تتعارض ضغوطه مع المزاج الرُّوسي.

ومع أنَّ البعض يتوقّع من مؤتمر برلين المزمع انعقاده في 23 من يونيو المقبل حلًّا للمشكل الليبي، فإنَّ مثل هذه المؤتمرات لا يمكن لها أن تخرج بحلٍّ سوى توصيات ومقترحات، وفي مجملها لن تخرج عن كونها ضغوطًا تجاه إجراء الانتخابات في موعدها المأمول، وكذلك قد تُحفِّز على إجازة المبادئ الدّستوريَّة؛ لتجعلها عكَّازًا به تُشرعن الانتخابات، وأيضًا قد يُشار من المؤتمرين وعلى استحياء إلى المصالحة الوطنية وأهميَّتها لليبيين، ومع ذلك فكلّ الضُّغوط لن تُحقِّقَ أغراضها ما لم يكن من بين الحضور الوطني تلك الأطراف التي دفعت الثَّمن؛ مشاركة فيه رأيًا وقرارًا وتحمُّل عبءٍ ومسئوليَّةٍ.
ومع أنَّ دول الجوار الليبي والدِّول الإقليميَّة والدِّول الكبرى مصرّة على وحدة الدّولة الليبيّة، فإنَّها بلا استثناء ليست مصرّة على وحدة الرّأي الليبي؛ بل بعض الدّول تعمل كافة المغريات (مالًا، وعدَّةً، وعتادًا، مع وافر المعلومات الاستخباراتية) على ألَّا يكون لليبيين وحدة رأيٍ إلَّا على رأيٍ منهم (رأيٍ مِن تلك الدّول واستخباراتها)، لا شكّ إنَّه ذلك الرَّأي الذي لا يأمله الليبيّون؛ ويا ليته لا يحدث.

أ د. عقيل حسين عقيل

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر