الطُعم المزدوج ! .. (قراءة فى البيان الأوربى الأمريكى الصادر حول ليبيا )

قدم البيان الخماسى الذى أصدرته حكومات الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وايطاليا والمانيا مساء الجمعة الماضية درساً فى فن المرواغة بإنطوائه على فقرات بدت مبهمة وحمالة أوجه على نحو يمكن لطرفى النزاع (حكومتى الوحدة والأستقرار ) تأويلها لصالحهما وهو ما حدث بالفعل حين سارع الطرفان بتأييد البيان وتحديدا إجتزاء الفقرات التى تنسجم معهما , غرد السيد عبد الحميد دبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية مُرحبا بالفقرة التى تلمح الى تمديد شرعية خارطة الطريق التى تستمد منها حكومته شرعيتها بإعتبار أن انتهاء الأخيرة كان مقروناً بإجراء الانتخابات فى 24 ديسمبر المنصرم وهو ما لم يحدث و مشيدا بالفقرة التى ترفض” الاستيلاء على السلطة بالقوة او إنشاء مؤسسات موازية” معتبراً أن هذه إشارة واضحة على عدم اعتراف الأسرة الدولية بحكومة الإستقرار من ناحية وتأكيداً على شرعية حكومته من ناحية آخرى , بدوره غرد السيد باشاغا مُرحبا بالفقرة التى تشير الى “رفض عرقلة الانتقال السلمى للسلطة الى هيئة تنفيذية جديدة يتم تشكيلها من خلال عملية شرعية وشفافة ” معتبراً أن هذه إشارة الى حكومته التى انتُخبت من البرلمان وتحظى بدعم مجلسى النواب والدولة على حد تعبيره .

على صعيد آخر تنفس أنصار الطرفين الصعداء و انبروا يهللون للبيان و يتشفون فى خصومهم عبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعى ويعتبرونه انتصاراً دولياً ساحقاً فى مشهد هستيرى من الكوميديا السوداء التى لا يفتقر اليها المشهد الليبى , وفى تقديرى أن الموقف كان أقرب الى مباراة كرة قدم يحتسب فيها الحكم هدفين فى مرمى الفريقين فى آن واحد فيحتفل لاعبو الفريقين كلا بالهدف الذى احتسب لصالحه متغافلين عن حقيقة مؤداها ان ثمة هدف احتٌسب فى مرماهم ايضا !

خلاصة البوح لا يحتاج البيان الخماسى الى خبير فى السياسة الدولية ليتمكن من فك شيفرته و إستخلاص الرسائل ما بين سطوره وإستشراف خطوات المجتمع الدولى القادمة فى ليبيا بل كل ما يحتاجه هو قراءة شاملة و متأنية بذهنية مستقلة عن حالة الاصطفاف السياسى لنجد انفسنا امام الطرح الآتى :

-أن المجتمع الدولى أدرك عدم امكانية اجراء انتخابات وتحقيق الحد الأدنى من الإستقرار الذى يدعم مصالحه الإستراتيجية فى ظل حكومتين متنازعتين تدعى كلا منهما الشرعية و الوقت حان للتغيير الشامل .

-أن حكومة الوحدة الوطنية مستمرة فى تأدية مهامها كحكومة تسيير أعمال فقط لتجنب الفراغ التنفيذى باعتبارها المسيطرة على العاصمة طرابلس الحاضنة للمؤسسات السيادية ولا يمكن التعويل عليها فى إجراء الإنتخابات او العمل معها كشريك إستراتيجى فى الملفات الشائكة التى تهم الأسرة الدولية وعلى رأسها عودة الانتاج النفطى واستقراره وتفكيك التشكيلات المسلحة ومكافحة الارهاب والهجرة غير الشرعية.

-أن المجتمع الدولى يعتبر حكومة الاستقرار سلطة موازية ويشكك فى طريقة انتخابها ولا يمكن له العمل معها على الرغم من انتخابها من البرلمان .

– أن ثمة حاجة ملحة لإنتاج سلطة تنفيذية جديدة تقود المرحلة الانتقالية الاخيرة وتعمل على تعبيد الطريق نحو الانتخابات العامة بشقيها الرئاسى والبرلمانى .

-أن هذه السلطة لابد ان تُشكل عبر عملية شرعية وشفافة لا يشوبها اى خلل دستورى او قانونى وبتوافق بين الأطراف المختلفة بيد أن آلية تشكيلها لم تتضح معالمها بعد وربما نكون امام سيناريوهين محتملين إما أن تشكل هذه الحكومة بتفاهم مشترك بين رئيسى مجلس النواب والدولة على أن يكون لقاء جنيف المرتقب بمثابة تدشين لهذا المسار الجديد او إحياء لجنة الحوار من جديد مع إعادة تشكيلها بإستبعاد عناصر وإضافة آخرى وربما توسيعها وزيادة عددها لتشمل أطراف لم تكن ممثلة بالقدر الكافى وهذا قد يرتبط بمخرجات جلسة مجلس الامن التى تعقد خلال الساعات القادمة والتى ستبحث أزمة السلطة التنفيذية فضلا عن وضع البعثة الأممية بتركبيتها الحالية .

– أن السلطة التنفيذية الجديدة التى ستُشكل لاحقا ستحظى بالإعتراف والدعم الدوليين وربما يصدر بحقها قرار من مجلس الامن اسوة بالقرار 2259 الذى صدر فى اعقاب توقيع اتفاق الصخيرات فى 17 ديسمبر 2015 وبالتالى يتعين على حكومة الوحدة تسليمها السلطة سلميا .

فى تصورى أن بيان الخماسى كان بمثابة طعماً مزدوجاً ابتلعه الطرفين بسلاسة و حقق المطلوب منه بإنتهاج سياسة الغموض البناء حين تجد النص مقبولا فى عمومه مبهما فى تفاصيله ويحقق قبول لدى كل الأطراف بينما يحمل فى طياته هدفاً مختلفًا تماما عن ما يرنوا اليه أطراف النزاع .

محمد السلاك
كاتب ومعلق سياسى ومتحدث سابق باسم رئيس المجلس الرئاسى الليبى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر