ملامح “العشرية” الليبية المقبلة !

 

د. مالك الشاوش

 

بعد الفشل الذي انتهت به رحلة الانتخابات الليبية القصيرة منذ الإعلان عن تاريخ اجرائها المفترض في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، بواسطة المبعوثة الأممية السابقة (المستشارة الحالية للأمين العام أنطونيو غوتيريش) السيدة ستيفاني وليامز ُفي أعقاب نهاية جولات الحوار السياسي الليبي في مدينة جنيف مطلع العام الماضي؛ أصبح من الواضح أن المشهد السياسي الليبي قد وصل إلى محطة يشوبها غموض ملبد بغيوم الجمود أو بتعبير أكثر وضوحاًِ “جمودٌ غامض “

 

فالسجال الذي يدور رحاه هذه الأيام بين كل من عبد الحميد الدبيبة رئيس الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية الليبية والتي ولدت من رحم اتفاق جنيف ولا زالت تمسك بزمام الأمور في العاصمة الليبية طرابلس وتتمتع بدعم دولي ، وبين رئيس الوزراء المسمى لحكومة الاستقرار الوطني فتحي باشاغا ؛ ليس وليد اللحظة، أو نتيجة للمسار المتخبط الذي انتهجه الحوار السياسي في جنيف باعتماده لمرحلة انتقالية غير واضحة المعالم  لتحل محل مرحلة انتقالية لم تكن أقل منها تخبطاً أو غموضاً أو تجاهلاً لتقلبات ميزان القوى الحقيقي على الأرض سواء داخلياً أم خارجياً .

 

ولكن هذه المبادرات التي أشرفت عليها البعثة الأممية للدعم في ليبيا لم تكن ناشئة عن فهم خاطئ منذ البداية، وإنما استندت إلى واقع سياسي متشابك لم تساعد انتخابات المؤتمر الوطني ( الممثل ببعض من أعضاء المجلس الليبي للدولة اليوم )  في عام 2011  ولا انتخابات البرلمان الليبي ( الذي لا يزال يتمتع بولايته حتى الآن ) في تفسير معالمه وسبر أغواره، إنما أدت بشكل مباشر إلى أول اتفاق رعته الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية، وهو الاتفاق الذي حدد بشكل كبير النغمة التي ستعزف بشكل متكرر في كثير من الاجتماعات اللاحقة، والتي حاولت تدارك الخلل والعطب الذي أصاب مسيرة اتفاق الصخيرات الشهير، بمعالجات صبت في نفس الإطار الذي بني عليه الاتفاق، حتى وان اختلفت التفاصيل بشكل جذري باستثناء تفصيل وحيد تمثل في بقاء كثير من الشخصيات التي تقلدت أدواراً متفاوتة خلال العشر سنوات الماضية على الضفاف المختلفة التي يقف فيها الفرقاء الليبيون مما أعطى جموداً “حركياً” على العملية بمجملها، وإن احتفظت بالمظهر الديناميكي الشكلي الذي تمثل في مظهره الأقوى والأبرز من خلال انعقاد مؤتمر برلين الذي حاول تنسيق المواقف الدولية وتذليل الإشكاليات وتخفيض حدة التقاطعات الدولية التي أضافت تعقيداً خاصاً إلى الملف المعقد سلفاً .

 

ولا بد في هذا الصدد أن نشير إلى بعض المساعي من طرف بعثة الدعم الأممية إلى ليبيا والتي يبدو أنها حاولت أن تضع نصب أعينها معالجة هذه الاشكالية بالذات مثل مشروع مؤتمر غدامس الذي حاول رئيس بعثة الدعم السابق السيد غسان سلامة التحضير له ولم يتمكن نظراً لاندلاع المواجهات المسلحة عام 2019 ونجاح نائبته السيدة ستيفاني وليامز في تشكيل لجنة الحوار السياسي التي وفرت مشاركة متنوعة ولكنها وقعت في فخ غياب الآليات الواضحة والمنطقية في اختيار أو “انتخاب” الأطراف والشخصيات بطريقة تضمن مشاركة الشخصيات سواء المؤثرة على الأرض بشكل مباشر أم تلك يمكن أن تشكل إضافة فارقة سياسياً أم اجتماعياً، فكانت النتيجة هي ما نراه اليوم من نزاع حول من يملك الشرعية ، وهو النزاع الأساسي والمستمر منذ عام 2014 .

 

وقد وفر الحراك المصاحب للانتخابات الليبية بين شهري سبتمبر وديسمبر من العام الماضي فرصة نادرة لملاحظة تغير وجيز في المشهد السياسي الليبي شمل قطاعات وتيارات إما لم تكن مشاركة بشكل مباشر في الصراع الدائر حول الشرعية الغائبة أو تلك التي كانت غائبة بشكل كامل عن هذا الصراع مثل تيارات النظام السابق، ولكن هذا الحراك ما لبث أن هدأ بتعثر العملية الانتخابية.

 

ولعل تزامن بدء الحملة الروسية في أوكرانيا وارتباطها بمنهج إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية المتحركة (وارتباطها بروافدها الدولية ) في عدة اتجاهات,قد أعطى الفرصة المناسبة لاستشراف التوجهات الدولية والنظرة المتجددة نحو الحالة الليبية والتي كانت دائماً متأثرة بالمنطق الدولي وتقلباته منذ تأسيس الدولة والمملكة الليبية المتحدة في عام 1951مروراً بحصار لوكربي الذي جاء بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ثم مرحلة إعادة دمج النظام الجماهيري في المنظومة الدولية الذي جاء بعد احتلال العراق عام ،2003 ثم انهياره لاحقاً متأثراً بموجة الربيع العربي عام 2011. فبالإضافة إلى ما يؤخذ في الاعتبار في ما يخص إشكالية الشرعية المفقودة والحراك السياسي المتصلب في ليبيا وعطفاً على ما يعتبره البعض اهتماماً دوليا بملف مصادر الطاقة الليبية ومدى ملائمتها لتعويض بعض النقص الذي قد يصيب الإمدادات الروسية إلى أوروبا تحديداً، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بشكل عام يعون الحاجة إلى فك تفاصيل المعضلة الليبية، الظاهرية منها والواقعية، لا لأنها تمثل خطراً على المجتمع الدولي بالمنطق الأمني أو الاقتصادي وهي تدخل عامها الثامن، بأكثر التحليلات تعاطفاً ؛ بل لأن قواعد “فك الاشتباك” الدولية التي سادت منطقها خلال السنوات الماضية قد أصبحت غير سارية ومن هنا تأتي الحاجة إلى تعريفها وتحديدها وبهذا قد تتحول الساحة الليبية إلي منطقة صراع من نوع آخر وبمنطق يماشي التحولات الدولية

 

إن هذا الأمر ليس خاصاً بليبيا، وان كنا قد اتخذنا الحديث عنها مثالاً ومنطلقاً، ولكنه واقع نرى تفاصيله من إيران إلى سوريا واليمن مروراً بالسودان ومنطقتي القرن والساحل الافريقيين اقليمياً ، والتي نلاحظ فيها تغيراً أسرع نسبياً نظراً لما تمتلكه من أطر سياسية مستقرة ومحددة ، الأمر الذي تفتقده الحالة الليبية الفوضوية وهو ما أخر أي تغييرات واضحة تشي بما تسير إليه الأمور 

 

لا شك لدي أن المرحلة القادمة أو ” العشرية”  إن أردنا مقارنتها بالعشرية السابقة، ستقدم لنا واقعاً جديداً يأخذ فيه الصراع في ليبيا شكلاً أكثر واقعية في تعبيره عن ميزان القوى، من اختصار لأطراف الصراع وصعود قوى جديدة ليس لها ارتباط بجذور التناقضات التي نراها معقدة الآن، وهذا يصاحبه مقاربة أممية أكثر واقعية سواء من خلال منظمة الأمم المتحدة  أو من خلال القوى الدولية المؤثرة

 

09/05/2022

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر