شجرة الايك .. شجرة الاسلام


 

     كأنني اعتلي جبلاً شاهقاً ، أصم لا زرع فيه ولا شجر، مقبلاً من ظلام دامس، لا نجم فيه ولا قمر، ولما  شارفت على الوصول إلى قمته،  بهرني نور ينساب فيضاً من السماء حتى أنحصر على أرض هي رحم الحضارات، مهد السلام والرسالات والرسل، قبلة الأديان السماوية ، منبع الأعراف والأخلاق والقيم، منبر الشعر والخطابة والنثر، وموطن العلم والعلماء والفكر ..  فلما استويت على قمته لمحت لوحة طالعتني في الأفق البعيد ؛ رائعة الجمال ناطقة الصور، من صنع مبدع خلاق مقتدر، جنان وصحاري وقفر، جبال وهضاب وسهول خضر، أنهار وجداول وعيون ماء تنفجر، محيطات وبحيرات وبحور وجزر،  تتصدرها أيكة لم أرى لها في حياتي مثل، تشابك أغصانها تشابك أصول البشر، صفحات أوراقها كأنه كتاب قد نشر، في متونه الأخبار والعظات والعبر

   شجرة كنت أحسبها في بادئ الأمر وحيدة الجدع، أو هكذا تراءت لي من بعد،  ولكن عندما اقتربت منها، وجدت أن جذعها هذا مكون من عدة جذوع، قد تراصت  ظهير بعضها البعض، ملتحمة، في تآلف وتعاون وانسجام، لخص كل معاني التكامل والاتحاد، ما بالكم اليوم تنسلخون؟  جذعها هذا فارع في الطول، يتسامى عزة وأنفة، وفخرا واقتداراً،  بين تلك الأشجار المتواجدة على امتداد تلك الهضاب والسهول، بما يحمله بين يديه من خيرات، مما جعلها دائما مطمعاً للغزاة والمعتدين، وتراها تلوح في عيون المسالمين عند الأفق البعيد لكل زائر أو عابر سبيل، كامرأة تحمل في إحدى يديها إناءً مزداناً بفاكهة شهية للآكلين، وباليد الأخرى إبريقاً تسكب منه ماء للشاربين، ووحش كاسر في عيون المعتدين أستفز، فأستنفر من توه واقفاً متحفزاً لدفاع عن نفسه، مكشراً عن أنيابه، رافعاً خفه، مسمعاً صوت حفيف أوراقه زئيراً يرهب الطامعين

أن هذا الجذع رغم متانته وشدته لم ينجو من التعرض للاعتداء والأذى ، فلم يخلو من الفجوات ، والثقوب ، والخدوش ، والجروح ، قصاً وتقطيعاً ، اقتلاعاً وتكسيراً ، تقليماً وتلقيماً،  نحتاً  وكتابة، رسما وزخرفة، لأي جزء منه،  طالته أيدي  وأسنان  ومخالب ومناقير المعتدين من زواحف الأرض وخشاشها، طيورها وحيواناتها، كوارث الزمان ومصائبه،  عبث الإنسان وصنعه، عدواناً وطمعاً، عبادة وتقديساً، تدنيساً وتطهيراً، دون تمييز، سواء كان جذعاً أو فرعاً، غصنا أو حتى برعماً

 ويبقى الشاهد على ذلك كله، ندب على جسده حتى لا ننسى، فلماذا أنتم اليوم  تنسون ؟ أم أنتم تتناسون ! ، أما قشرة لحائها المجعدة الغليظة والمفتولة الألياف، تدل على نضج عودها وصلابته، قوته واكتمال نموه، أصالته وعمق جذوره، وتظهر على هذا الجذع الصامد مسحة من الهيبة والوقار، بما اعتلاه من ألوان تداخلت في بعضها البعض ثم تباينت ثم تداخلت، كلوحة فنية رسمت بريشة مبدع فنان، أسمه التاريخ  الذي لم ولن يغفل لحظة واحدة عن تدوين أي شيء صغيره وكبيره ، بسيطه وعظيمه ، وقعت أحداثه بين فكيه في صفحات ذاكرة الأمم، فالأسود لون لواء الإسلام ديننا، والأبيض نقاء سرائرنا، والأزرق زرقة سمائنا وشواطئنا، والأحمر لون مواقعنا، والأصفر لون صحارينا، مبعث القيم والأخلاق فينا، والأخضر، خضرة سهولنا ومراعينا ، وخصب فكرنا وسمو مبادئنا


   قد يظهر على هذا الشجرة عند الجاهل أنها قد بلغت من العمر عتياً، وأنها بين الأشجار العظام أصبحت نسياً منسياً، ولكنها اليوم هي أكثر نشاطاً وحيوية، فيها روح الشباب المتجدد وتجربة الشيب ملؤها الروية والتعقل، فلم تتوقف عن التطلع إلى المجد عالياً، وإلى الأمام تقدماً، فتجدها كلها حيوية ونشاطاً ، براعما بزغت اليوم وأخرى بالأمس، وفروعا استطالت حديثاً وأخرى قديماً، فالفروع المتفرعة من هذا الجذع كثيرة من كل طيف ولون، لا غرو إن تباينت  في  أشكالها وأحجامها، لكنها جميعاً من أصل جذر واحد موغل في العمق والقدم ، بذرة من سلالة إرث نوح عليه السلام، أو ممن نجا معه على ذات الدسر، منها الأصيل، ومنها الملقّـم

لكن جذر هذه الشجرة الطيبة لا يجد غضاضة في أن يغدق عليهما جميعا من عصارة هذه الأرض، حباً وحناناً لا ينضب، لتصطبغ بها وتشب في أحضانها وتصبح كأنها منها، وهي ليست لها، ويتفرع من تلك الفروع  فروع وأغصان أخرى، تتشعب زاحفة في كل الاتجاهات، لتلتقي  بفروع تشعبت من جذوع فسائلها قد ناءت بعيداً في يوم من الأيام عن جذع شجرتنا هذه، لنائبة من نوائب الزمان، وتجدهما قد تشابكا وتلاحما مع بعضها البعض، لداعية النشأة الأولى، فروع منها الطوع ومنها المشاغب، منها الصالح ومنها الطالح، منها المسالم ومنها المعتدي، منها اللين ومنها القاسي، منها الداني ومنها القاص، منها المتطرف ومنها المعتدل، مكونة نسجا كرداء متين، وما ازدادت الشجرة إلا  قوة وتضافر، وما أن تتشابك وتلتحم هذه الفروع حتى تتفرع مرة أخرى، سنة الله في خلقه، وهكذا دواليك، حتى استطالت، وأصبحت تطال السحاب علواً ، وتلامس الأفق امتداداً رغم أنف الحاقدين، تهديها الشمس قبلة عند شروقها، وقبلة عند الغروب، ثم تغوص في ماء المحيط من فرط تعبها لتسترد نشاطها، وتبزغ في اليوم التالي من عند بحر الخليج أكثر إشراقا، والشجرة أكثر اخضرارا وأزهارا، عامرة بثمارها الذي لا ينتهي، كحديقة غناء، ذات ظل ظليل لا ينقطع طوال اليوم وعلى مدار السنة، تضللننا في الصيف من حرارة الشمس المحرقة، ومن الأمطار في أيام الشتاء الممطرة ، أنها شجرة مباركة عتيقة جدا، لا يكاد ولا يستطيع أن يتذكر، أو يذكر أحدا من شيب سكان القرية  متى ؟ ومــن الذي زرعها ؟ لا تلح في السؤال  انها شجرة مهد الاسلام .. لا تثير الأحجار تقليبا فتلدغك السوام 

كتبها في 22  يناير 2010 ـ لحوالي سبع سنوات مضت ؛ كأنها كُتبت اليوم 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر