العربُ من القصورِ إلى الخيامِ

في تلك العصور البائدة كانت العرب تسكن القصور، وفي هذه العصور تسكن الخيام البائدة، في تلك العصور كانت تتصدَّرُ الحضارات بناءً (علمًا وفنًّا وإعمار)، وكان العالم البائد بها يتغنّى، ومع أنَّها عبر التَّاريخ كلَّما انتكست أو انكسرت أعادت البناء نهوضًا، فإنَّها في عصورنا هذه ألمَّ البياد بها فشاخت.
في تلك العصور كانت حضارة العرب عاد ) لا مثيل لها: { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}، ومع ذلك أهلها طغوا وكفروا بنعمة الله عليهم، فبعث فيهم رسولًا؛ ليرشدهم إلى التي هي أحسن فلم يهتدوا؛ فكانت الانتكاسة على رؤوسهم بأيديهم كفرًا وطغيانًا؛ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}، إنَّها الانتكاسة من القصر إلى الخيمة، من الحضارة إلى فيافي الصَّحراء، إنَّها حضارة  العرب التي كانت جَنَّاتٍ وعُيُونٍ )، والتي من بعد أصبحت في خبر كان، ولم يبق شيء في مركز الحضارة  ( حضرموت ) إلَّا الخيمة التي نُسجت من شعر المعز، ووبر الإبل.
ولأنَّ العرب أهل حضارات فكلَّما انكسروا في حضارة بنوا غيرها؛ فهم من بعد حضارة :  ( عرب عاد في حضرموت ) بنوا حضارة : عرب ثمود في شمال الجزيرة العربية ) ،  { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } فأولئك العرب بلغوا من التقدُّم ما جعلهم ينقلون المياه في الصَّخر العظيم يجري وكأنَّه وادٍ؛ ليروي الأرض زراعة، حتى قُهرت الحاجة فيهم، وأصبحت الحضارة عنوانهم. 
وهكذا كان لحضارات العرب مراكز متقدِّمة. في وادي النيل : أهرامات عملاقة تعد من إحدى العجائب السَّبع التي ما زالت شاهدة على سيادة حضارة العرب  { وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ }، وكذلك حضارة عرب بابل ذات الحدائق المعلَّقة التي هي الأخرى تعد إحدى عجائب الدُّنيا السَّبع في العالم القديم. ومع أنَّ حضارات العرب قد زالت فإنَّ بعض آثارها لا يزال شاهدًا على التَّاريخ الحضاري، فَسدُّ مأرب العظيم في اليمن، ومملكة سبأ التي ذُكرت ملكتها في القرآن لخير دليل على تقدُّم العرب ثقافةً وعلمًا وسياسةً واجتماعًا، فالعرب قبل انتكاسات حضاراتهم سبقوا العالم في تبوَّؤ المرأة القمم السُّلطانية كونها لم تُعد عورة، وفي عهد تلك الملكة كانت الدِّيمقراطية شورى : قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ } كما أنَّها والملك سُليمان ـ عليه السَّلام ـ كانا علمين من أعلام قمم التقدُّم الحضاري للعربِ مصداقًا لقوله تعالى : قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } فقال لها النبي سُليمان : إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ }
تلك من شواهد حضارات العرب التي كلَّما انتكست لهم حضارة انكسروا خيامًا، والمرأة تُصبح عورة؛ ومن بعد تلك الحضارات عاش العربُ سنين الظُّلمة يتَّخذون من دون الله أربابًا حتى بعث الله فيهم رسولًا منهم :  { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }
جاء الدّين الإسلامي منزَّلًا على رسولٍ من العرب، رسولٌ للكافَّة؛ غايته أن يعلِّمهم الكتاب والحكمة؛ لينهضوا مما هم فيه من تخلُّف وعبودية إلى ما هو أعظم تقدّمًا وأكثر ارتقاءً وحريَّة؛ إذ  { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }.
ومع أنَّ محمَّدًا عربيٌّ من قريش، فإنَّه الرَّسُول الخاتم وللكَّافة؛ ولهذا كانت المدينة المنوَّرة وجهته الحضارية لتأسيس الدَّولة على الشُّورى ديمقراطيًّا؛ لقد اختار رسول الكَّافة المدينة؛ لأنَّها المسمَّى الحضاري الذي يحتوي الكلَّ ولا مغالبة ولا عصبيّة، وهذا يشير إلى ولادة سياسة جديدة، حكمتها العدل والبناء والإعمار، كما يشير إلى :  ( كفاية يا زمن الخيمة، كفاية يا زمن العصبيَّة، كفاية يا زمن الانكسار ).
في المدينة كان الأمر بين النَّاس شورى : وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِـ أي : في عهدك يا رسول الله لا تقرر أمرًا يخصَّهم نيابة عنهم، أمَّا من بعدك فالأمر بينهم لا يكون إلَّا شورى في كلِّ ما يتعلَّق بهم من أمر، فتأسَّست الديمقراطيَّة بينهم على مبدأ : وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ؛ ومن ثمَّ كان العِلمُ والفلسفةُ والحكمةُ جنبًا إلى جنبٍ مع الفتوحات هداية وعمرانًا حتى الأندلس التي مازالت شواهد الحضارة  ( العربية الاسلاميَّة ) فيها على قيد الحياة قِبلة السَّائحين في العالم.
ولأنَّ الانتكاسات من القصور إلى الخيام لم تفارق العرب فانتكسوا، وانكسروا، واتخذوا الخيمة شعارًا لهم، فيها يتغنَّونَ على الماضي، وكأنَّ الماضي يعودُ.
ومع أنَّ الخيمة عنوان للشَّجاعة والكرم، ورفض الخنوع لمن يكون، فإنَّ الضيوف فيها لا يكونون إلَّا عابرين، شعارها الرَّحيل، وعدم البناء، وعدم الإعمار، ولا للاستقرار، ومن يتخذها شعارًا فليس له إلَّا الرَّحيل.
وللخيمة أوتاد عدّة، وأكبر أوتادها العصبيَّة :  ( أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب ) وهذا يعني : لا للاستيعاب، ولا للمفاضلة العلميَّة والمعرفيَّة بما أنَّ الأخَّ أو ابن العم على قيد الحياة، ومن هنا تُصبح الخيمة في مواجهة الخيام على المأكل والمشرب والمرعى والمصلحة، ولكلّ خيمة مُغنيها، ومن ثمَّ فمن يغنِّي للخيمة يصعب عليه أن يغني للقصر، ومن يغني للقبيلة يصعب عليه أنْ يغنّي للوطن.
وأهل العصبيَّة إذا تمكَّنوا من حكم الدَّولة فلا يرون الدَّولة إلّا وكأنَّها مزرعتهم الخاصَّة، وبالتالي لا يرون الشَّعب إلَّا خادمًا فيها، ولا يرون الغير من أهل الخيام إلَّا اعداءً، ولا خيار لهم إلَّا القبول بأحد أمرين : التبعيَّة والموالاة للقبيلة الحاكمة، أو الإقصاء والتهميش، فإن قَبِلَ أهل الخيام بالتبعيَّة والموالاة فليس لهم إلَّا القبول بتجديد المبايعة وصَبغها في كلَّ الأوقات مثلما يصبغ الوضوء للصَّلاة، وعليهم أن يتبرَّءوا من كلِّ من يُتَّهم منهم بأنَّ له رأيًا؛ ولذا فهم برؤاهم تلك يعتقدون أنَّهم أصبحوا يمتلكون الدَّولة ملكية رقبة. 
ومن هنا ينغمسُ الحكم القبلي في الأخطاء بأخطائه، وعندما تقع الواقعة أوتاد خيمتهم لا تصمد.
خيمة القبيلة مهما كبرت لا تزيد على كونها خيمة قبيلة؛ ولهذا لا يمكن أن تكون قصرًا، أي : لا يمكن أن تكون عنوان دولة؛ لأنَّ عنوان الخيمة : (التنقُّل، والترحال، وملاحقة المرعى )، ومن ثمَّ فوطنها أينما يحلُّ الرَّبيع، ولا ترى وطنًا تحبُّه وتموت دونه أكثر من حُبِّها لمراعيها، أمَّا الوطن الكبير فبالنسبة لها له ربٌّ يحميه.
 وعليه : عندما تُحكم الدَّولة برؤية القبيلة، لا بدَّ أن تكون أغنية الدَّولة أغنية القبيلة، ومزاج الدَّولة مزاج شيخ القبيلة، ومن ثمَّ تسود مشيخة أفراد القبيلة على كلّ مشايخ الدَّولة، ومن يخالف ذلك يجب أن يتبرأ أهله منه وإلَّا…
ولهذا فالعقل القَبَلِي لا يرى مركزًا للعالم إلَّا قبيلته، وبالتالي لا يمكن أن تُفكَّ تأزُّمات العالم ما لم يأخذ العالم برأي شيخهم.
ومن هنا تُضخَّم القبيلة من قِبل المتعصِّبين لها، ما جعل كلّ قبيلة في الوطن تقول : أنَّا الأكثر عددًا، وأنا صاحبة التَّاريخ والأمجاد، أمَّا غيري فليس كذلك، وفي هذا القول حتى قطَّاع الطُّرق منها لا تراهم أمام الغير إلَّا أبطالًا؛ وذلك وفقًا لقاعدة المغالبة :  ( أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب )، ووفقًا لهذا المنطق المتعصّب هل يمكن أن تسقط الدَّولة ونظامها وتعيدها القبيلة ثانيةً ؟
أقول : عبر التَّاريخ، وشواهد حضارات العرب كلّها لم تسقط دولة واسترجعتها قبيلة؛ ولذا فمن يعوَّل على العقل القبلي في استرجاع الدّولة فلا مستقبل له إلَّا الخيمة والرَّحيل.
ولهذا أقول لمغنِّي القبيلة أفِقْ من غفلتك، وثق أنَّ الغناء لا يعيدك مغنِّي الدَّولة، وعليك أن تميّز بين صاحب الرَّأي، ومن لا رأى له، فصاحب الرّأي يكتب عن الأحداث ويصفها كما هي في وقتها، فإن كانت جيدة ليس له إلّا قول ذلك، وتبنِّيها، والدّفاع عنها، بل والدِّعاية لها بلا تردّد، ولكن إن تغيَّرت إلى الأسوأ، أو تبدَّلت إليه؛ فهل يليق به أن يقول إنَّها ما زالت جيدة، والأمر بخير واطمئنوا، أم ينبغي له أن يكون أوَّل وطنيٍّ يقول : خذوا حذركم، الأمر تغيَّر، إنَّها قد فسدت وساءت، ويجب التغيير؟ ولهذا فالفرق كبير بين أن يكون لك رأي، أو أن تكون مغنيًا للقبيلة.
ولأنَّه من حقّك أن تغني فلا تغضب إن قال لك أحدٌ :  ( غنِّي……)، ولكن عليك ألَّا تغني بالطوب، وبيتك من زجاج.  
ومع أنَّ الَّلوم من حقّ البعض على البعض، فإنَّه لا ينبغي التمسُّك بتلك العلكة فاقدة الصّلاحيَّة.
وعليه :  فلينتبه أهل المدن، فإنْ تعصَّبوا لن يكون لهم مشهد غير ما شهدوا عليه، وبالتَّالي فلا فرق بين عصبيّة الخيمة وعصبيَّة القصر، بل عصبيَّة القصر بسياط الدولة أشدُّ ألمـًا، وليعلم أهل القصر أنَّ تعصُّبهم وحده سيؤدِّي إلى لحمة الخيام المتفرِّقة، وجمعها في عصبيَّة واحدة، وحتى لا يشهدوا ما شهدوا عليه، فليس لهم إلَّا قول :  أنا وأخي وابن عمّي والآخرون معًا وسويًّا أمام القانون، ولا إقصاء ولا تهميش )، وعليهم أن يُفرِّقوا بين أغنية العصبيَّة، وأنشودة الوطن، وعليهم أن يعرفوا أنَّ العاصمة لا تكون إلَّا للجميع، ولا يستقرُّ لها أمنٌ إلَّا بهم، وإن لم يضعوا نصب أعينهم الحكمة فقصورهم لن تكون أعظم من قصور عرب عاد، وعرب ثمود، وإن لم يعتبروا فعليهم بتسدية  المزيد من الخيام ونسجها، والاستعداد للرحيل.
د. عقيل حسين عقيل
27/2/2018

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر