الخلافُ على الوطنِ سيادةً

الخلافُ على الوطن يجعلُ أصواتَ الاعتراضِ بين المواطنين تَرتَفعُ، وكأنَّ الأمرَ لا تحسمه حُجَّة، أمَّا الاختلافُ إن ساد بين المواطنين من أجلِ سيادتهم، سادوا في أوطانهم سادةً، وفي المقابل إن تَخالَفُوا على سيادتهم وَهَنُوا، وساد على حساب سيادتهم سادةٌ؛ ومن ثمَّ يُعدُّ (الاختلاف) بين النَّاس قاعدةً، أمَّا (الخلاف) فلا يكون إلَّا استثناءً.

ومع أنَّ الخلافَ علّةٌ في ذاته، فإنَّ العللَ من خلفه أكثر؛ إذ لا يحل الخلاف بشعبٍ إلَّا وعدم الاتفاق يكون سائدًا، ولا يسود الظُّلم، والفساد، والحرمان، والتهميش إلَّا والخلاف سائدًا، وفي المقابل ينعدم الخلاف بسيادة العدالة بين الشَّعب، وممارستهم الحريَّة بأسلوبٍ ديمقراطي.

وبالتَّالي لن يعد الوطنُ كما يراه البعض صنمًا مثل ذلك الصَّنمُ في العصر الجاهلي، الذي كان يتحدّثُ باسمه كاهنٌ لعُبَّاده: (كون الصَّنم لا ينطق)، فكان الكاهن ُكلَّما رغب مطلبًا تحدَّث لعبَّاده باسم الصَّنم، وفي كلِّ مرَّةٍ يقول الكاهُنُ: إنَّ الصَّنم يطلب كذا وكذا، فيلبي العُبَّاد مطلبه؛ بغاية نيلهم رضا الإله (الصَّنم)، وهنا بالطبع لن يعود المطلوب على الصَّنم في شيء، بل يعود على الكاهن، ويظل العبَّاد ينتظرون رضا المعبود من دون الله، حتى يبلغهم الكاهن برضاه، أو يبلغهم بمزيدٍ من المطالب.

هكذا بعض السَّاسة في أوطانهم يتحدَّثون، ويطلبون من الشَّعب تقديم المزيد من التضحيات؛ من أجل الوطن، وهنا إن لم يكن حال الوطن مِلكٌ لجميع مواطنيه، فسيكون حاله كحال ذلك الصَّنم؛ فكلاهما لا ينطق: (الصَّنمُ، والوطنُ)؛ ما يجعل الفارق منعدمًا بين النَّاطق باسم الصَّنم، والناطق باسم الوطن.

ولهذا فعندما يطلب السَّاسة من المواطنين أن يُضحَّوا، ويقدِّموا المزيد من التضحيات؛ من أجل الوطن، فالتضحية هنا في حقيقة الأمر لا تزيد عن كونها تضحية من أجل صنمٍ.

وهكذا بالتمام عندما يقول رئيس الحزب (أيِّ حزبٍ) لأعضاء حزبه: عليكم أن تقدِّموا المزيد من التضحيات من أجل الحزب فهو في حقيقة أمره يريدهم أنْ يضحوا من أجله، وأجل بقائه كاهنًا لصنمٍ لا ينطق.

وعليه: رحم الله شهداء الوطن، مع العلم أنَّه لا شهداء من أجل الوطن إنْ لم يكن الوطن للجميع سكنًا آمنًا، وعيشًا رغدًا؛ وعندما يمتلك الشَّعب الوطن كلَّه تُصبح التضحيات كلُّها من أجلهم: (من أجل الشَّعب)، وعندما يمتلكه الحاكم فلا تضحيَّات إلَّا من أجل الكاهن؛ ولذا علينا أن نؤكِّد: أنَّ الشَّعب هو من يمتلك الوطن، وليس الوطن من يمتلك الشَّعب، وبذلك تصبح التَّضحيات واجبةُ الأداء، والموتُ من أجله يخلق الحياة، ومع ذلك علينا أن نميِّز بين: أيَّهما أولى: الموتُ من أجل الشَّعب؟ أم الموتُ من أجل الوطن؟

لا شكَّ أن خيار الإجابة هنا أصبح بيِّنًا، ولكن عندما يكون السؤال:

أيهما أولى: التضحية من أجل الصَّنم؟ أم التضحية من أجل الكاهن؟

إذا قلت: لا إجابة؛ فأنت قد أجبت، وإن قلت إجابةً فستجد نفسك بين فكي كاهن الوطن، وكتائبه ذات الأنياب، وحينها ليس لك بدٌّ إلَّا الاعتراف بأنَّك لا تزيد عن كونك عاملًا في مزرعة الكاهن، الذي له حريَّة التصرُّف في مزرعته بيعًا، واستغلالًا، أو أن يتركها أرضًا بورًا، وكلُّ هذا؛ كي لا تحلم بأنَّك مواطنٌ حرٌّ في وطنك، وإن صدَّقت نفسك في غير ذلك فستكتشف يومًا أنَّك أوَّل من كَذَبَ على نفسهِ.

ولهذا فالكاهن الذي يُنصِّب نفسه كاهنًا على الوطن لن يكون الوطن في زمانه إلَّا صنمًا، وبالتالي فلن تجد التضحيات مكانًا لها لتحلَّ فيه. 

وعليه:

إذ لا وجود لخليفةٍ قد صَاحَبَ رسول الله -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، كما هو حال: (أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية)؛ ولهذا فالأحزاب التي تدَّعي أنَّها الخليفة، أو إنَّها قادرة على إعادة نظام الخلافة (هو كما هو)، فهي كمن يرى نفسه قادرًا على إيقاف حركة التَّاريخ عند دائرة من دوائره دون غيرها؛ وذلك من خلال إدارة عجلته إلى الخلف، حتى يقف عند ذلك العصر، الذي كان فيه نظام الخلافة مناسبًا في دائرة النسبيَّة، وهو ذاته النظام الذي لن يكون مناسبًا لعصر الدَّولة الوطنيَّة، وفي المقابل مَن يرى نظام الخلافة مناسبًا فَرؤاهُ لا تزيد عن كونها رؤية كاهن يريد أن يخدع النَّاس ويرهقهم بمطالب الإله (الصَّنم).

ومن ثمَّ أقول: لقد انتهى زمن الأصنام، وكُهَّانها برسالة محمَّد رسول الكافَّة -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأنَّ لكلِّ دائرة من دوائر التَّاريخ خصوصيَّة ينبغي أن تُقدَّر، وأن تؤخذ العِبر منها؛ بتجنُّب ما يجب تجنُّبه، وأخذ بما ينبغي أخذه.

ومن هنا أقول لمن يريد إعادة نظام الخلافة الرَّاشدة: عليك بإعادة أبي بكر الصّدِّيق، وعمر بن الخطَّاب -رضي الله عنهما- أحياء على قيد الحياة، وفي المقابل من يريد أن يكون خليفة في عصره فعليه بالدَّولة الوطنيَّة خليفة؛ حيث الحقوق تمارس عن إرادةٍ، والواجبات تؤدَّى عن رغبة، والمسؤوليَّات تُحْمَلُ مع تحمُّل ما يترتَّب عليها من أعباء جسام

أ.د عقيل حسين عقيل

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر