اختلفت دولُ العالمِ واتفقت علينا

مع أنَّ دول العالم متخالفة المصالح؛ فإنَّ قراراتها السياسيَّة اتفقت على فتنةِ بلادنا (ليبيا)؛ ما جعل الاقتتال بين الإخوة الليبيين مدعومًا من دول العالم، مع أنَّ قرارات الأمم المتحدة تمنع تصدير السِّلاح إلى بلادنا؛ ولهذا أقول: اختلفت دول العالم واتفقت علينا.

ولأنَّ التغيير في بلادنا تزامن مع اتساع دائرة التطرُّف في العالم فقد دخلت جماعات أجنبيَّة متطرِّفة إليه، وكوَّنت جماعات لها من بعض الليبيين الذين تهيئت أنفسهم للتطرُّف، وهذا المشهد لم يَخفَ عن أعين العالم، وبالتَّالي فساسةُ العالم مع أنَّهم لا يقبلون هذا المشهد؛ فإنَّهم لا يرون حلًّا للمشكل الليبي ما لم يتمَّ تبني الأطراف المتخالفة دون استثناء، ودعمها بالسِّلاح، حتى يتكسَّر السِّلاح الليبي بأيدي الليبيين على رؤوسهم.

ومع أنَّ ساسة المشهد الليبي في الوقت الحالي قاصرون نسبيًّا عن إدارة الدَّولة الوطنيَّة؛ فإنَّ ساسة العالم مطمئنُّون لهذه النسبيَّة؛ وذلك تمشيًا مع تلك القرارات التي لا زالت سارية المفعول: (استمرار الاقتتال)، ومع أنَّها قرارات تنفيذ الأمر الواقع من (تحت الطَّاولة)؛ فإنَّها القرارات المخالفة لما يجرى من فوقها (فوق الطاولات).

ومع أنَّ للأمم المتحدة مبعوثين للأمين العام بغاية مساعدة الليبيين وإيجاد حلٍّ، فإنَّ دول العالم (أعضاء الأمم المتحدة) المقرّة لإرسال مبعوثين إلى ليبيا فتح بعضها طاولات حوار موازية لطاولة الأمم المتحدة. أي: من جهة تقرِّر الأمم المتحدة تحديد طاولة واحدة للحوار الليبي، ومن جهة أخرى يتمُّ تجاوزها بطاولات أخرى هنا وهناك للمهمّة ذاتها.

وهذا التناقض رسالةٌ إلى الليبيين مفادها: أيُّها الليبيون نحن أعضاء الأمم المتحدة اتفقنا على أنَّه لا طاولة للبحث عن حلٍّ في ليبيا إلَّا طاولتنا، ومن خلال مبعوثينا.

وفي المقابل رسائل الطاولات الموازية تقول: أيُّها الليبيون من لا تعجبه طاولة الأمم المتحدة فطاولتنا ميسَّرة، وهي في انتظاركم؛ ولهذا فُتحت طاولة للحوار والتفاوض في فرنسا، ونكاية فيها فتحت طاولة في إيطاليا، ونكاية أخرى فتحت طاولة في الإمارات، ثمَّ في قطر، ثمَّ في مصر، وتونس، والجزائر.

ولهذا أقول: لا حلّ للمشكل الليبي بما أنَّ الطاولات متعدّدة ومتوازية، وبخاصَّة أنَّ هناك خلاف تاريخيًّا قديمًا بين فرنسا وإيطاليا على السَّاحة الليبية؛ ففرنسا التي زحفت قوَّاتها من بحيرة تشاد إلى فزَّان عبر الصحراء الكبرى: (حرب البادية) من 1941 – 1943، التي بأسبابها أُخرجت إيطاليا من إقليم فزَّان عام 1943م، وحلّت فرنسا محلّها؛ لازال ذلك الإحلال حيًّا مؤلما في الذاكرة الإيطالية، وبخاصّة أنَّ القوات الفرنسيَّة بعد أن أخرجت القوات الإيطالية بقيت هناك، وهي تظن أنَّ إقليم فزَّان أصبح جزءًا من فرنسا، غير أنَّ الجهاد الليبيي، وقرار الأمم المتّحدة عام 1949م باستقلال ليبيا يُعدُّ إخراجًا لفرنسا من الجنوب الليبي.

ومع ذلك اشترطت فرنسا قبل الخروج أن يكون دستور الدَّولة الليبيَّة اتحاديًّا، لا بغاية تجنب المركزيَّة وتسهيل الخدمات؛ بل لأنَّ أمل العودة إلى فزَّان حيًّا لا يموت، وبقيت قواعدها في إقليم فزَّان حتى عام 1955م، الذي من بعده تمَّ إجلاؤها تفاوضًا؛ مع أنَّها كانت تشترطُ إعادة قوَّاتها إلى فزَّان في حالة اعتداء أيِّ دولة أجنبيَّة على الإقليم.

ونظرًا لأهميَّة الموقع الجغرافي الليبي، والثروات الهائلة، والمناخ الرَّائع، كانت المناورات تجري بين الإيطاليين، والإنجليز في أثناء عرض القضيَّة الليبيَّة على الأمم المتحدة؛ لتكون أقاليم ليبيا الثلاث تحت الوصايا الدوليَّة وفقًا لمشروع: (بيفن سيفورزا)، وهو اتفاق سرِّي كان يجري بين وزيري: خارجيَّة بريطانيا (أرنست بيفن)، و (وزير خارجيَّة إيطاليا (كارلو سيفورزا)؛ إذ تمَّ الاتفاق بينهما على استقلال ليبيا، على أن يكون بعد عشر سنوات، ووفق شرطٍ تخضع به أقاليم ليبيا الثلاث -طوال هذه الفترة- تحت وصايا ثلاث دول: تكون فيها برقة تحت الوصايا البريطانيَّة، وطرابلس تحت الوصايا الإيطاليَّة، وفزَّان تحت الوصايا الفرنسيَّة، ولكن على الرُّغم من ذلك تمَّ التصويت في الأمم المتحدة على استقلال ليبيا في 17 مايو 1949م، وبهذا القرار أسقط مشروع الوصايا الدوليَّة على أقاليم ليبيا الثلاث.

والملاحظ أنَّ الاتحاد السوفييتي بعد أن استشعر وهن إيطاليا، وأهميَّة الموقع الجغرافي الليبي تقدَّم لاحقًا باقتراح على الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة، طالب فيه: أن تكون له الوصايا على إقليم طرابلس بدلًا من إيطاليا.

وأعيد مشروع استقلال ليبيا للعرض على الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة في 21 نوفمبر 1949م، ويومها قرَّرت الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة: أنَّ ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة في موعدٍ لا يتجاوز يناير 1952م؛ ونظرًا لحرص الليبيين على نيل استقلالهم تم إعلان استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951م

ومع أنَّ ليبيا أصبحت دولة حرَّة ذات سيادة فإنَّ الصِّراع الإيطالي الفرنسي على ليبيا بقي حيًّا وينشط كلَّما تهيئت له الفرص؛ فإيطاليا ترى في نفسها صاحبة الحقّ؛ كونها المستعمر لليبيا، ولكن ذلك الكفّ الفرنسي الذي أخرجها من فزَّان لم يُمسح من الذّاكرة، وفي المقابل فرنسا ترى أنَّ الوقت أصبح مناسبًا لضرب إيطاليا كفًّا آخرًا يخرجها من المشهد الليبي بالمرَّة، وبما أنَّ الخلاف الفرنسي الإيطالي ما زال يتجدّد على السَّاحة الليبيَّة بين مصالح الدَّولتين من خلال شركاتها العابرة للحدود كما هو الحال بين شركتي: (إيني الإيطاليَّة التي معظم مصالحها في الغرب الليبي، وتوتال الفرنسيَّة التي معظم مصالحها في الشَّرق الليبي).

ولأنَّ إقليم فزَّان أصبح غنيًّا بالنفط، والحديد، والغاز، والذَّهب، والطَّاقة الشمسيَّة فأمر حلّ المشكل الليبي سيظل صعبًا ما لم يتم الفرز بين هذه الأطماع، ومصلحة ليبيا وسيادتها الحرّة.   

فالصّراع الذي يجري في ليبيا هو نتاج صراع المصالح بين روما وباريس؛ ومن ثمَّ فلا اتفاق بين الليبيين ما لم تتفق روما وباريس، أو أن تتخذ الأمم المتحدة قرارها كما اتخذته باستقلال ليبيا وإخراج روما وباريس، أمَّا بعض الدِّول الإقليميَّة ومن يدور في فلكها فلا يزيد دورانها عن دوران تُرسٍ لا يتوقّف عن اللَّفِ ما لم يتوقَّف دوران التروس الكبرى؛ فالتروس الصغيرة مثل: العقول الصغيرة، يرهقها لفّ الكبار ودورانهم، وعندما تدور رؤوسهم فلا يبصرون إلَّا قليلًا؛ ولذا فلن يتغيَّر دوران التروس الصُّغرى ما لم يتغيَّر دوران التروس الكبرى.

ومع أنَّ بعض الليبيين لا يرى حلًّا للمشكل الوطني الليبي ما لم يكن الحلّ بين الليبيين: (ليبي ليبي) فأنا أقول: المشكل الليبي من أساسه قرار مدوَّل، وبالتَّالي لا إمكانيَّة لحلِّه إلَّا على طاولة الأمم المتحدة، مع قبول الاستثناء: (تغيير المبعوثين) الذين لن يتمكَّنوا من إيجاد حلٍّ للمشكل الليبي ما لم يتبنُّوا مبادئ وطنيَّة جامعة: (ليبيا دولة وطنيَّة واحدة لا تتجزأ، وجيش واحد يؤمِّن الوطن: برًّا، وبحرًا، وجوًّا، وشرطة وطنيَّة تؤمِّن المواطنين، والتداول السِّلمي على السُّلطة، واستقلاليَّة القضاء، ودستور يرسم خريطة الدَّولة الليبيَّة: سياسةً، واقتصادًا، واجتماعًا، وإجراء انتخابات نزيهة وشفَّافة تُوحِّد مؤسَّسات الدَّولة وتُفعِّلُها)، أمَّا إذا حدثت المغالبة فلا أهميَّة ولا ضرورة لمبعوثي الأمين العام، ومن ثمَّ ستنتهي اللعبة.

أ د. عقيل حسين عقيل

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر