الطريق نحو طرابلس

الجزء الأول

   

ربما كانت زيارة السيد فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا مؤخراً إلى تركيا تحمل طابعاً اقتصادياً لم تتأخر وسائل الإعلام الليبية الرسمية في التأكيد عليه خصوصاً مع وجود وزير التخطيط المخضرم السيد الطاهر الجهيمي ضمن الوفد المرافق للسيد رئيس المجلس

 

ولكن الزيارة الخاطفة التي ربما جاءت في توقيت غامض بالنسبة  للحالة الليبية المزمنة تشعر فيه الأطراف المشاركة في العملية السياسية بالإنهاك والحيرة إزاء مستقبل ووجهة هذه العملية ، بعد الزخم والحماس الذي صاحب الأشهر الأولى بعد تولي السيد غسان سلامة لمهمته نهاية الصيف الماضي ، والتي  توجت بتبنيه لـ ”خارطة طريق“ أو ”إعلان مبادئ“ يتضمن نقاطاً عدة أهمها تعديل الإتفاق السياسي وتقليص عدد أعضاء المجلس الرئاسي إلى ثلاثة أعضاء وتسمية رئيس للحكومة ، بالإضافة إلى الإعلان عن التحضير لإقامة ”مؤتمر وطني جامع“ بدا غامض الغاية والتكوين ، وإن كان عنوانه الرئيسي هو ”المصالحة“ محاولاً في ما يبدو إعادة تجاوز الماضي بكامله ، وإدخال الكوادر السياسية والإجتماعية المنتمية لفكر النظام  الجماهيري  إلى العملية السياسية ،  والذين تم تهميشهم في الفترة التي تلت تغيير النظام في ليبيا،  أو قاموا هم  بـ ”تهميش أنفسهم“ حسب  وصف السيد سلامة ، من غير  توضيح أكثر لكيفية حدوث هذا التهميش الذاتي

  

فور إعلان السيد سلامة عن خريطة طريقه ومن غير الدخول في أي نقاشات حول نقاطها، بدأت لجان البرلمان ومجلس الدولة اللقاء في العاصمة التونسية في جولات ماراثونية تحاول أن تصل إلى نتائج بخصوصها قبل مهلة السابع عشر من ديسمبر ، تاريخ الانتهاء المفترض عند البعض لولاية المجلس الرئاسي الليبي .. ودار  جدل بشأنه . انتهت هذه  اللجان بعد بعض الإنقطاع إلى اعتماد توصيات بخصوص آلية تعديل المجلس الرئاسي وتسمية أعضائه، تم تقديمها  إلى البرلمان الليبي على الرغم من اعتراض مجلس الدولة عليها باعتبارها  تعطي البرلمان اليد العليا في عملية اختيار أعضاء المجلس الرئاسي ، وبالفعل تم  اعتماد هذه التوصيات من قبل البرلمان وبدا أن صفحة جديدة تكتب في  تاريخ الصراع السياسي الليبي

ولكن .. بعد أسابيع من النشاط السياسي في ليبيا ،  وبعد ترقب مشوب بالقلق بسبب توارد أنباء عن عملية عسكرية وشيكة سيتم الإعلان عنها  في الساعات الأولى من يوم السابع عشر من ديسمبر خصوصاً مع تصاعد حملات إعلامية موجهة ضد ليبيا من قبل وسائل إعلام غربية تصور عملية استغلال للمهاجرين غير الشرعيين من خلال عمليات استعباد وبيعهم كرقيق كما روجوا له    ، أتى إعلان مجلس الأمن يوم الخامس عشر من ديسمبر  والذي عبر  فيه عن دعم المجلس الرئاسي من غير التقيد بمدة زمنية لضمان تنظيم انتخابات ليضع حداً لهذه التكهنات ولكنه أيضاً وضع حداً للخطوات السريعة  الهادفة إلى تعديل الاتفاق السياسي .. حتى حين

التوافق التركى الفرنسى .. أو عدم التوافق !

لعل هذه المقدمة الطويلة والتي اطلع على تفاصيلها كل متابع للأزمة في ليبيا كانت ضرورية ، فهي تعطي انطباعاً سطحياً أن الإشكالية في ليبيا هي داخلية بحتة ( أزمة سياسية ،أمنية ، اقتصادية ، مجتمعية الخ ) وهذا وان كان صحيحاً إلا أن اعلاناً من قبل مجلس الأمن حول الصلاحية الزمنية الخاصة بالاتفاق السياسي أنهت أسابيعاً وشهوراً من النقاش الليبي الليبي الذي لم يكن ليصل إلى نتيجة  لولا التدخل الدولي الذي يبدو السمة  الغالبة منذ سبعة أعوام ،  والذي انتقده الرئيس ماكرون في زيارته الأخيرة إلى تونس ، حيث اعتبر اسقاط النظام السابق أو على الأقل طريقة اسقاطه في ظل عدم وجود بديل خطأً يتحمل المجتمع الدولي وبالذات اوربا وزره ، وإن كان من  ناحية أخرى قد أشار إلى مستقبل ممكن في مايخص استمرار موجة  ”الربيع العربي“ في المنطقة ربما ليشمل دولاً أخرى ، وكأني بالرئيس الفرنسي يقول : ليبيا ليست مستعدة للديمقراطية وأن نظاماً عسكرياً ربما هو أفضل الحلول لها ! ربما

إذا أخذنا نظرة متأنية إلى مسار الأحداث وتقلباتها في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى جبال الأطلس ،  يمكننا أن نلاحظ تزامناً وترافقاً مثيرين للإهتمام في ما يخص الحالة الليبية

منذ سقوط النظام السابق في ليبيا، أخذت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا المقاعد الأمامية في ما يخص التواجد والتأثير السياسي والأمني مع أدوار متفاوتة لكل من إيطاليا وتركيا وبعض الدول العربية مثل تونس، مصر، الامارات، قطر، السعودية، السودان و بدرجة أقل الجزائر والمغرب

إلا أن التغيرات السياسية التي حدثت في بعض هذه الدول من ناحية تغيير القيادة والاستراتيجية أفرزت دوراً أكبر لفرنسا في عهد الرئيس هولاند الذي لم يكن شخصياً مشرفاً على هذه الرؤية ،إنما لعب وزير دفاعه (وزير الخارجية الحالي) جان ايف لودريان الدور الأكبر في تشكيلها وتوجيهها من ناحية دعم الجيش الليبي وقيادته في شرق ليبيا مع الحفاظ على علاقة فاترة بالمجلس الرئاسي الوليد ذاك الوقت الذي استثمرت إيطاليا وقتها وجهدها في دعمه وتمكينه من تثبيت أركانه في العاصمة طرابلس ( التي كثيراً ما توصف بأنها مركزالإهتمام الإيطالي في ليبيا ) مع حفاظ الولايات المتحدة على وجودها المترقب والمتابع لكل التطورات من دون إدارة مباشرة فيما عدا بعض التدخلات والمعالجات ( المعلنة وغير المعلنة ) للحفاظ على بعض التوازنات هنا وهناك ومنع الإنهيار المفاجئ ، واهتمامها الأكبر بالتطورات الحاصلة في شرق المتوسط ، وهنا وصلت عملياتها إلى ليبيا لقصف اعدائها   ، مترافقاً ذلك مع دخول بريطانيا إلى دهاليز ( البريكست ) الملتوية و الذي حد بشكل واضح على تأثيراتها الدولية والإقليمية مع محاولتها الحفاظ على بعض الحضور ”المشترك“ على الأقل  سياسياً وتركيزها على بعض الملفات الإقتصادية من  خلال استضافتها لبعض المؤتمرات الخاصة بالمؤسسات المصرفية والنفطية الليبية

شكّل وصول الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون تحولاً مهماً في مسار الأحداث الليبية والإقليمية بشكل عام ، فبدا واضحاً نية سيد الإليزيه الجديد التعامل والإشراف المباشرين على الملفات الحيوية و الإستراتيجية ، وقيامه بزيارات سريعة إلى بعض الدول الإفريقية والعربية ، بعد أسابيع قليلة من توليه مهامه وحسمه السيطرة على وزارة الدفاع التي ستقوم في ما بعد بالإشراف على مبادرة بتشكيل قوة تدخل سريع تتمركز في منطقة الصحراء الإفريقية ذات تمويل دولي مشترك تساهم السعودية والإمارات وفرنسا ، وعدة دول افريقية ( شكلياً ) في تمويلها بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي يقتصر تمويلها على ( أدوار تنموية ) ستكون جاهزة بحلول فصل الربيع من هذا العام 2018 ، وتحويل السيد جان إيف لودريان للإشراف على وزارة الخارجية التي أخذت دوراً أقل نشاطاً في ظل الحيوية والتصميم اللافتين للرئيس الفرنسي الجديد

وكان لقاء الرئيسين الأمريكي ترامب والفرنسي ماكرون في الرابع عشر من يوليو الماضي ( يوم الباستيل ) فرصة للتنسيق والنقاش بخصوص الكثير من القضايا الإقليمية والدولية لم تكن الحالة الليبية بعيدة عنها. فبعد هذه القمة الأمريكية – الفرنسية بعشرة أيام احتضن قصر ضاحية لاسيل سان كلو الباريسية ( والذي شهد مفاوضات استقلال المغرب في خمسينيات القرن الماضي ) لقاءاً بين كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي السيد فائز السراج و القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر بحضور كل من الرئيس ماكرون والسيد غسان سلامة توج بتوقيع اتفاق من عشرة نقاط وأكد على الإلتزام بالاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات ووقف إطلاق النار وعدم الاحتكام إلـى السلاح بين الأطراف السياسية في ليبيا  ، وهو ما أثار حفيظة ايطاليا بالذات التي يبدو أنها شعرت بالدور الطموح لفرنسا في الإشراف المباشر على الملف الليبي واستعادة دور أكبر في العاصمة الليبية طرابلس ( بموافقة ضمنية أمريكية ربما) وهو ما أدى على ما  يبدو إلى اعتماد قرار للبرلمان الإيطالي يوم الثالث من أغسطس 2017 , ليتبعه قرار آخر في يناير من العام الحالي يسمحان بإرسال قوات إلى ليبيا والنيجر )  ويتيحان للبحرية الإيطالية  القيام بـ“مهمات بحرية“ في المياه الإقليمية الليبية ، وهو ربما يهدف إلى اظهار التصميم الإيطالي على الحفاظ على دورها وحضورها المتخافت في ليبيا وهو ما سنناقشه في الجزء الثاني من هذا التقرير   

في هذا الوقت كانت الأحداث في شرق المتوسط تأخذ منحنيات ومنعطفات مثيرة وخطيرة على أكثر من صعيد ،  وترافقها مع إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية في ما يخص الدور التركي في المنطقة بشكل عام وسوريا بشكل خاص والتي وجدت  نفسها بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة في تقاطعات دولية فرضت عليها إعادة حساباتها الإستراتيجية في ظل التواجد الروسي والأمريكي في سوريا والدور المستجد أو المستعاد لفرنسا جنوب الصحراء الإفريقية ( التي تحافظ على وجود تاريخي هادئ ومهم في سوريا ومنطقة الشام بشكل عام ) . وتطورت هذه التحركات التركية باتفاقاتها مع كل من قطر السودان وأخيراً  عملياتها في البلدات الحدودية، وأصبح واضحاً الحاجة إلى فتح قناة مباشرة بين فرنسا وتركيا في ظل الترقب الذي تمارسه كل من روسيا والولايات المتحدة للتطورات الحاصلة في المنطقة        

وإذا كان هنا بالإمكان أن نقف قليلاً وأن نعود مرة أخرى إلى يوم السابع عشر من ديسمبر الماضي حيث بدا أن عجلة التطورات السياسية في ليبيا  التي أعقبت اتفاق – لا سيل سان كلو – قد توقف أو تباطأ مع دخول موسم العطلات وبداية العام الجديد ، سنناقش في الجزء الثاني ماذا حدث يوم الخامس من يناير من  مكالمة بين كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان و الفرنسي إيمانويل ماكرون وتأثير هذه المكالمة على الأزمة السياسية في ليبيا … يُتبع   

د. مالك الشاوش 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر