ثَوْرًتيّ ضَبْطِ الإِيقَاعِ

مع أنَّ الأجهزةَ السُّلطانيَّة في معظم البلدان النَّامية قامعة للحريَّة فإنَّ قوَّتَها مهما عظمت لا تستطيعُ أن تصمدَ أمام مواجهةِ صمود الشَّعب إذا قرَّر الثّورة على الفساد ومصادره

وخير شاهدٍ ما يجري الآن في الجزائر والسودان من ثورة منذ مدَّة ثلاثة أشهر؛ حيث الشُّعوب تصمد، والقمم السُّلطانيَّة تسقط، والشَّعب لن يقبل بالتوقُّفِ عند تهاويها، بل ما زال في الميادين ثائرًا، لا يريد استبدال حاكمٍ ظالمٍ، بحاكمٍ دكتاتوريٍّ، كما أنَّه لا يريد أن يستبدل الحكم المدني بالحكم العسكري.

ومن الملاحظ أنَّ ما يجري من ثورة في الجزائر والسُّودان يختلف عمَّا جري تحت مسمى: (ثورات الرَّبيع العربي)؛ فثورات الرَّبيع العربي: الشُّعوب أسقطت الأنظمة، وبعضها أسقط النظام والدَّولة معًا كما هو الحال في ليبيا، واليمن، أمَّا ما يجري الآن في الجزائر والسُّودان فثورتي شعبٍ وجيشٍ؛ حيث انتفض الشَّعب؛ فاستجاب معه الجيش؛ حرصًا على سلامة الدَّولة، ونهاية رؤوس الأنظمة منتهية الصلاحيَّة.

إنَّهما ثورتي ضبط الإيقاع؛ إذ لا لعب بمؤسَّسات الدَّولة العاملة، وإنَّ الجيش الذي شارك في عملية التغيير أصبح جزاء من العمليَّة السياسيَّة في أثناء المدّة الانتقاليَّة؛ وهذا يعني: لا لحكم العسكر، ولا للفوضى الشعبيَّة، وفي المقابل نعم شعبٌ وجيشٌ في مرحلة انتقاليَّة منضبطة، تجرى من بعدها انتخابات تفرض سيادة الشَّعب على الدَّولة الوطنيَّة؛ ولذا فإنَّ ثورة ضبط الإيقاع تعني: ضبط إيقاع ثورة الشَّعب؛ كي لا تسقط الدّولة، وضبط إيقاع حركة الجيش؛ كي لا يعسكرها.

فحركة الشَّعب الثَّائر عندما لا تُضبط تخرج عن أهدافها ومراميها، ولكن عندما تُضبط توازنًا؛ تُوجَّه إلى مستهدفاتها وفقًا لتوازن قوَّة الشَّعب مع قوَّة الجيش، وبالتَّالي لن يجد المارقون من الشَّعب فراغًا غير مُنضبطٍ أمره، ولن يملأ الجيش فراغًا قد امتلأ بقوَّة الشَّعب إرادة ومسؤوليَّة.

ومن هنا يصبح الإيقاع منضبطًا؛ إذ لا جموح، ولا حركة غير متحكم في تمدّدها؛ تجنُّبًا للخلل الذي طرأ على ثورات ما سُمي بثورات الرَّبيع العربي، التي في معظمها كانت ثورات شعبٍ والإيقاع غير منضبطٍ؛ ولذا فإنَّ ثورات ضبط الإيقاع جاءت بحزمٍ وضبط أمرٍ؛ كي لا تَعُمَّ الفوضى باسم الشَّعب، ولا تسيطر الدكتاتوريَّة باسم الجيش، ولا يفلت النظام الفساد من المساءلة، وملاحقة العدالة.

ومع أنَّه عَبر التَّاريخ عندما ينقلب الجيش على الحاكم ونظامه يؤيده الشَّعب، فإنَّ ثورتي الشَّعب الجزائري، والسوداني كانتا ثورتي شعب بتأييدٍ من الجيش، ومع أنَّ الجيش قد لبَّ النداء الشعبي، وسيطر على أجهزة الدَّولة وأمَّنها، فإنَّ الشَّعب لم يكن مؤيِّدًا للجيش في الانفراد بالسُّلطة، بل استمر ثائرًا في الميادين إلى يومنا هذا؛ من أجل بقاء الدَّولة الوطنيَّة، التي فيها السُّلطة والسيادة للشعب بكل فئاته، وجيشه، وألوان طيفه.

ولأنَّ ثورتي ضبط الإيقاع في الدولتين تفجَّرت من أجل أن تبقى الدَّولة الوطنيَّة آمنة؛ فكان التفاعل بين الجيش والشَّعب دستورًا منضبطًا، ومن هنا كان لحركتهما إيقاعًا متوازنًا، والحزم فيه أمرٌ واقعٌ.

ولهذا فالعلاقة لن تُقطع بين الشَّعب والجيش، وبالتَّالي سيكون أمر الثورتين: (المشاركة) في تسيير الأمر مؤقَّتًا؛ حتى تُجرى عمليَّة الانتخابات لاختيار قِمِّة سُلطانيَّة وطنيَّة بإرادةٍ شعبيَّةٍ.

ومن ثمَّ تفجّرت ثورتي ضبط الإيقاع؛ لإثبات أنَّ رفض مطالب الشَّعب يؤدّي بالضرورة إلى رفض الحاكم وإن قدَّم الحاكم المزيد من التنازلات؛ ولذا دائمًا كلَّما صعد الشَّعب درجة على سُلَّم التحدِّي، والرَّفض، انحدر النظام الحاكم درجتين، ومن بعدها كلَّما صعد الشَّعب درجتين، انحدر النظام الحاكم أربعُ درجات، حتى يهوي، ويسقط.

وعليه: لقد مرَّ الوطن العربي بثورات الرَّبيع التي أُخذت المآخذ عليها؛ مما جعل المنتج (صاحب الفكرة) يعيد صوغها، ويقدِّمها إلى المخرج؛ ليخرجها مضبوطة الإيقاع؛ حفاظًا على الدَّولة ومؤسَّساتها، مع استمرار فوضى الحلّ أنموذجًا للتسويق والانتشار، بعد نجاح التجربة التي من وجهة نظر صاحب الفكرة لا بدَّ أن تعم بقيَّة الدّول في منطقتنا، والزَّمن كفيل بذلك.

ولا شكَّ أنَّ التغيير سُنة من سُنن الحياة؛ فمن لم يغيّر ما بنفسه بنفسه سيغيِّره الغير؛ ذلك لأنَّ عجلة التَّاريخ لا تتوقَّف عن الدوران إلى الأمام، وأيّ نظام سياسي يتعنَّتُ أمامها؛ ستداهمه بشعوبٍ تطلب الموت من أجل الحياة، ولهم في التَّاريخ البعيد والقريب عبرة، ويا ليتهم يعتبرون.

ولأنَّه لا مقارنة بين المواجهات التَّاريخيَّة، ومواجهة الأنظمة الهشَّة؛ إذن فالنتيجة معروفة مسبقًا؛ انهيار الجرف الهارِ ومن على ظهره؛ فتلك الأنظمة لو أصلحت نُظمها وغيَّرتها حلًّا للمعضل السياسي، والاقتصادي، والأخلاقي، والعلمي، والصّحي لعرفت أنَّ السباحة في البحار والمياه هادئةٌ ممتعةٌ، وحينها تعرف أنَّ التمركز على (النَّحنُ) ينقذ من الغرق، وأنَّ التمركز على الأنا الغرق بعينه.

ومع أنَّ التغيير إلى الأفضل أملٌ متجدِّدٌ فإنَّ لترتيبات الشّرق الأوسط جهود تبذل، وخصوصيَّة محسوبة، مع مفاجئات غير محسوبة؛ بها يتمُّ استبدل المتوقَّع بغير المتوقَّع، أي: إنَّ العالم المتقدِّم لا يرى إلَّا التغيير ضرورة، وليست له مراهنة على التغيير إلَّا بالشعوب غير المقولبة في نظمٍ وأيديولوجيَّات منغلقة، فهذه التنظيمات هي الأخرى إن لم تغيّر ما بنفسها فلن تكون إلَّا قصاصات ورقٍ في قمامة التَّاريخ، ومن هنا جاء الصوغ الجديد معدَّلًا: (ثورات ضبط الإيقاع)؛ وبالتَّالي فلا مفرَّ من قبول الشَّعب بالجيش شريكًا، ولا مفرَّ للجيش من قبول الشَّعب شريكًا، ومن حقِّ الإثنين في زمن التجربة أن يحذروا؛ حتى لا تطالبهم مصارف الدّم بالمزيد.

أ د. عقيل حسين عقيل

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر