بين الحضارات يعيش إنسان

(شخصيات هذه القصة من وحي الخيال ولا تمت للواقع بصلة وإن تشابهت مع شخصيات حقيقية فهو محض صدفة لا غير)

كان خالد يعد فنجان قهوته في ذلك الصباح من أيام الخريف وهو يطالع عبر زجاج النافذة أوراق الأشجار التي تمايزت ألوانها في لوحة فنية بديعة وهي تتمايل مع الريح وكأنها تتراقص مع أنغام أغنية “قديش كان في ناس” ل “سفيرتنا الى النجوم فيروز” التي كان يستمع إليها عبر جهاز الأيفون ثم توقف عن تحريك قهوته ليبتسم عندما صدحت السفيرة ب” صارلي شي 100 سنه مجروحه بهالدكان” .. ليستلقي جالسا على الكرسي وهو يرتشف قهوته مستمتعا بالصوت والأنغام الملائكية من جهة والصورة الجميلة لتلك الأشجار التي اكتست بألوان الخريف المتنوعة من جهة أخرى. بعد ان أنهى قهوته، سحب خالد حقيبته و هو يهم بالخروج الى العمل ويده على مقبض باب شقته .. فتراجع فجأة على عجل متجها الى ثلاجته الصغيرة، فقد تذكر بأنه قد نسي الساندوش الذي أعده لوجبة الغذاء فأخذه وألقى به في جوف حقيبته لتلتهمه على الفور  قبل أن يغادر من جديد.

Untitled.png

تبادل خالد تحية الصباح مع عدد من ركاب المترو الذين يشاركونه إياه كل يوم وهم يهمون بمغادرة محطة دنداس بمدينة تورنتو الكندية كل متجه الى وجهة مختلفة أما خالد فقد كان متجها الى محطة يونج ستريت ليلتحق بعمله، إندمج خالد في بعض الأحاديث مع الركاب وكان جلها حول الفوز الكبير لفريق البيسبول المحلى “البلوجيز” على فريق “كانساس سيتي رويالز” الأمريكي الليلة الماضية والحركة التي باتت شهيرة  ل”خوسي باتيستا” عندما قام بإلقاء مضربه تعبيرا عن نشوة الفوز ليتوقف برهة وهو يعود بمخيلته إلى حقبة الثمانينيّات عندما كان جالسا بأحد مدرجات المدينة الرياضية  بطرابلس ليتذكر فرحته وباقي المشجعين في “تريبونة” نادي المدينة مع أنه كان من مشجعي نادي “الاتحاد” عندما سجل “مصطفى حسين” هدف الفوز الثاني لنادي الوحدة في شباك حارس فريق الأهلي طرابلس “مصباح شنقب” و !! … إنتبه خالد بأنه قد وصل محطته ليعد رفاق رحلته الصباحية برؤيتهم مجددا وهو يخرج من عربة المترو ليمشي بخطى حثيثة نحو مقر عمله وهو يتبادل الإبتسامات مع المارة الذين يقابلهم.

waleed story 2.png

بدأ خالد بتشغيل جهاز حاسوبه في مكتبه بشركة المعلوماتية التي يشتغل بها وهو يتصفح بعض الملفات وكانت تجلس بجانبه زميلته في العمل كاثي التي دائما تحكي عن نصفها الأسكتلندي (من جهة الأب) والنصف الأخر الإيطالي (من جهة الأم) لتقطع صمت لحظات العمل الأولى وهي تحمل كوبا ورقيا من قهوة “التم هورتنز” لتسأل خالد: هل  اخترت زيك التنكري الذي سترتديه في عيد الهالوين؟.. ليجيب خالد بأنه لم يختر زيه التنكري بعد وأنه بصدد الخروج للبحث عنه في الأيام المقبلة وهو يتذكر أيام طفولته في منطقة قرقارش بطرابلس عندما كان يعد زي “الشيشباني” مع أبناء الجيران: الصمعة والدوبله، ليخرجوا مع بقية أبناء الحي ليلة العاشوراء يطوفون من باب إلى باب ليأخذوا حصتهم من الفول الشهي وما يجود به جيرانهم، تذكر خالد “الشيشباني”  لما فيه من شبه كبير بعيد “الهالوين” في أمريكا الشمالية والذي يأتي مع نهاية شهر أكتوبر من كل عام، حيث يقوم الصغار و الكبار بارتداء أزيائهم التنكرية ويطرق الأطفال على الأبواب ليأخذوا الحلوى من الجيران والأصدقاء في سعادة تغمر الجميع .. قنينة كتشب !! .. نعم سأرتدي لباسا تنكريا على هيئة قنينة كتشب في عيد الهالوين هذا العام !!! … بينما كان خالد يتحدث مع كاثي وخياله يسرح بين ذكريات الطفولة ومقارنة الهالوين بالشيشباني، وقف عليهما مديرهما المباشر “موكيش” ذو الأصول الهندية والذكي جدا فهو خريج معهد الهند للتكنولوجيا الشهير ليشاركهما الحديث قليلا قبل أن يذهبوا جميعا إلى الإجتماع الصباحي.

waleed 3.png

مع انتهاء النصف الأول من دوام ذلك اليوم، جاء موعد الراحة وساعة الغذاء وبدأ البعض بالخروج لشراء طعامهم من الخارج بينما قرر البعض الأخر في البقاء و الاستمرار بالعمل على مكاتبهم وتناول غذائهم في نفس الوقت أما البقية فقد توجهت نحو مطبخ الشركة لتجهيز وتناول طعامهم، كان خالد من ضمن المجموعة الأخيرة، فعلى الرغم من أنه جلب معه ساندوش ويمكنه تناوله من على مكتبه، الا أن خالد يحب الذهاب إلى المطبخ عند الغذاء حتى تسنح له الفرصة للحديث مع زملائه فهو من “ليبيا” والليبيون يحبون “التهدريز” بطبيعتهم ؛) … جلس خالد بجانب جاسون الذي كان ينتظر دوره لاستعمال الميكرويف لتسخين طعامه وجلس مقابلهم نعيم ذو الأصول اللبنانية وكان دائما يتبادل المزاح مع جاسون فقام جاسون بمعاكسته هذه المرة: دعني أخمن !! الكثير من لحم الخنزير في حافظة طعامك ! .. ابتسم نعيم فجاسون يعرف بأنه مسلم لا يأكل الخنزير، وفتح حافظة الطعام ليخرج غذائه المكون من بعض السلطات ومحشي ورق العنب ليرد الدعابة لجاسون: هذا ورق العنب الذي تحبه ولن تحصل على أي شئ منه وستظل تراقبني ألتهمه لوحدي .. عندها صاح أبوستولوس اليوناني الأصل وهو يدخل المطبخ: دولمادووووووس !! ودولمادوس تعني محشي ورق العنب باليونانية ليغرق الجميع في موجة عاتية من الضحك، تخيل خالد العالم اليوناني الشهير “أرخميدس” وهو يخرج عاريا صارخا “يوريكاااا يوريكاااا” عند اكتشافه قانون الطفو، يا للصدفة !! .. قالها خالد في نفسه .. لعل أرخميدس كان جدا مباشرا لأبوستولوس … إبتسم خالد وهو يأخذ قضمة من طعامه. بعد الغذاء رجع الجميع الى أعمالهم وانقضى النصف الثاني من الدوام رتيبا مملا على خالد الذي كان ينتظر نهاية اليوم بفارغ الصبر، فالساندوش الذي تناوله في الغذاء قد انتهى مفعوله وتم هضمه وحرق أخر نانو من سعراته الحرارية بالكامل وباتت العصافير في معدته تزقزق وتطير حتى صار صوتها مسموعا عبر جنبات وأركان بطنه.

إنتهى الدوام، وغادر خالد مقر عمله على الفور مسرعا ليتوقف في منتصف الطريق المؤدي إلى محطة المترو ليدخل إلى مطعمه التايلندي المفضل ليمتع نفسه بوجبة من “الباد تاي” التي طلب بأن تكون حارة ومبهرة زيادة، المطعم تديره سيده تايلاندية الأصل مع بناتها الثلاث وكانت كل مره تحكي لخالد عن قصتها عندما هاجرت إلى كندا من عشرين سنة مضت مع زوجها الذي توفي منذ سنوات، كيف كافح كلاهما بجهد وعناء حتى تكلل تعبهما بالنجاح في النهاية بافتتاح هذا المطعم، وكانت تسرد لخالد قصتها وهي تعد له وجبته المفضله فهو كان زبونا دائما لديها، نظر خالد إلى معكرونة الباد تاي الرقيقة والتي تذكره دائما برشتة الكسكاس (واللحم كداس كداس) الليبية الشهية ليس لتشابهما في الطعم ولكن لتشابه المعكرونة فيهما. قام خالد بتحريك يده بسرعة مع النفخ فقد كان صحن الباد تاي ساخنا جدا قبل ان يقوم بالتقاط الشوكة والانهماك في ابتلاع وجبته الشهية .. نعم الشوكة !! فبالرغم من كون خالد من عشاق الأكل الأسيوي، إلا أنه لا يجيد الأكل بالعصي التي تستعمل في المطعم الأسيوي كالصيني والتايلندي والياباني، حتى السوشي، يحبذ خالد أن يتلقفه بيديه عوضا حتى عن الشوكة نفسها !! . انتهى خالد من وجبته ليحاسب صاحبة المطعم ويشكرها كثيرا كعادته كل مرة على الوجبة اللذيذة التي أعدتها له ليخرج بعدها متجها نحو محطة المترو ليعود إلى شقته ويرتاح بعد عناء يوم طويل وهو يتبادل الإبتسامات مع المارة كما كان يفعل في الصباح.

waleed 4.png

تناول خالد علبتين من الجعة الباردة من ثلاجته قبل أن يستلقي على كرسيه في شقته ليرتاح من عناء ذلك اليوم، فتح خالد التلفزيون وتنقل عبر المحطات عله يجد شيئا يسليه بينما كان يأخذ رشفات متقطعة من جعَّته، فقد الأمل في نهاية المطاف في إيجاد شئ يثير الاهتمام ويصلح للمشاهدة،  فقام بقفل التلفزيون على مضض ثم بدأ يداعب جهاز الأيفون ليفتح صفحته على الفيسبوك عندها وقعت عيناه على مشاركة لأحد أصدقاءه المقيمين بمدينة كالجاري في الغرب الكندي لمنشور يتحدث عن ما تم وصفه بالحركات الهدامة في الاسلام كطوائف الأحمدية والإسماعيلية وغيرها ليتذكر عندها خالد بأن عمدة مدينة كالجاري وهي من كبريات المدن في كندا هو “ناهيد قربان نينشي” من الطائفة الإسماعيلية  والذي تم انتخابه أول مرة سنة 2010 كما تم إعادة إنتخابه مرة أخرى سنة 2013 بنسبة تجاوزت 74٪ من أصوات الناخبين ليعد أول شخص من الأقليات العرقية يتقلد منصب عمدة في مدينة كندية يتجاوز عدد سكانها المئة ألف نسمة (كالجاري يتجاوز تعدادها المليون نسمة) كما يعتبر أول مسلم (ربما يتعارض مع وجهة نظر المنشور الذي نشره صديق خالد) يصبح عمدة مدينة كبيرة في أمريكا الشمالية، إنتاب خالد مزيج من الحزن والأسى مع كثير من الإنزعاج “البان كي موني” على صديقه الذي لا يزال حبيسا داخل شرنقة الزمان والمكان، أسيرا لثقافة الإنغلاق والكراهية وشيطنة الأخر، وكما بدا لخالد جليا بأن صديقه وللأسف لم يتعلم من تجربة العيش بين ظهرانين مجتمع متعدد متفتح متسامح يتقبل الأخر وينظر للجميع دون تفرقة بينهم بسبب أعراقهم، وألوانهم، وجنسهم، ومعتقداتهم الدينية، مجتمع كفل لناهيد فرصة عادلة ليعمل ويصل فيتقلد منصب عمدة مدينة كبيرة ومهمة كمدينة كالجاري ويعاد انتخابه بسبب كفاءته وسيرته- لا بسبب إنتمائه للطائفة الفلانيه أو الديانة العلانيه !! … تذكر خالد أيضا مشرفه الأكاديمي جون بلاك اليهودي الأصل عندما درس الماجستير في علوم البرمجة في جامعة تورنتو، وكيف أن أحد الطلبة العرب إقترب منه ليتحدث إليه في بداية إلتحاقة بالجامعة ونصحه بعدم إتمام دراسته مع هذا المشرف والبحث عن بديل أخر لأن اليهود حسب رأيه الشخصي لا يؤتمن لهم وبأنه سوف يطعنه في ظهره عندما تحين الفرصة ويغدر به، تلك الطعنة التي لم تأتي لخالد حتى بعد أن اجتاز امتحانه النهائي لنيل رسالة الماجستير التي سانده فيها ذلك البروفيسور اليهودي ولم تأتي حتى بعد أن كان له دور كبير في تأمين عمل له مع شركة مرموقة بعد أن أن قام بدعمه برسائل التوصية، ولا يزال خالد حتى هذا اليوم يتقابل مع مشرفه السابق من وقت لأخر في أحد المقاهي في اليونج ستريت حيث يقضي مشرفه أوقات فراغه في قراءة نظريات الفيزياء وخصوصا نظرية الأوتار التي دائما يحب التحدث عنها ويحاول كتابة بعض معادلاتها المعقدة على مناديل الورق !! .. أقفل خالد صفحة الفيسبوك منزعجا، وهذه المرة أقل حدة من الإنزعاج على مستوى مقياس الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” ليريح أعصابه هذه المرة  بالإستماع إلى أغنية “الصبا والجمال” للفنان الفيلسوف “محمد عبد الوهاب” قبل أن يستمع إلى أغنية “عالم رائع” لأحد أعمدة موسيقى الجاز في أمريكا “لويس أرمسترونج” ليحس خالد بجمال وروعة الحضارات الإنسانية التي تنقل بينها في لحظات قبل أن يدركه النعاس ويخلد للنوم إستعدادا ليوم أخر من حياة خالد.

خالد الإنسان الذي يعيش هنا و هنا و هناك، متنقلا بين الحضارات التي تشترك في نفس الملامح والصور، الملامح التي تميزنا نحن كبشر من طقوس للفرح والحزن والحب والاحتفال والتشجيع والأكل والكد والشقاء والفن والعلوم، خالد .. إسمه يعبر عن الخلود النسبي لذاكرة هذا الإنسان التي تضرب في جذورها قدما إلى فجر الإنسانية الأول، عندما انتصب واقفا على هذه الأرض لأول مرة ليعيش عبر حضارات تلتها أخرى ثم أخريات واضعا بصمته عليهم في كل مرة، ليمر بعضها بانتكاسات ونكبات ظل بعضها وصمة عار على جبين الإنسانية، ولكن من ميزات الحضارات الإنسانية قدرتها على التعلم من أخطائها لتتكيف وتتطور وتتقدم إلى الأمام حتى تستمر ولا تنهار، ولعل أهم ماتعلمته في تاريخها على الإطلاق هو ترسيخ مبدأ التعايش والمساواة بين البشر وتقديس حرية وكرامة الإنسان…    

وأدرك خالد الصباح … فانطلقت العصافير في تغريدها المباح .. ..

اللوحات الفنية من رسم : وليــد القــروي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر